لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
(ذرّية بعضها من بعض)(1). تشير هذه الآية إلى أنّ هؤلاء المصطفين كانوا- من حيث الإسلام والطهارة والتقوى والجهاد في سبيل هداية البشر- متشابهين، بمثل تشابه نسخ عدّة من كتاب واحد، يقتبس كلّ من الآخر: (بعضها من بعض). (والله سميعٌ عليم). في النهاية تشير الآية إلى حقيقة أنّ الله كان يراقب مساعيهم ونشاطهم، ويسمع أقوالهم، ويعلم أعمالهم. وفي هذا إشارة أيضاً إلى مسؤوليات المصطفين الثقيلة نحو الله ومخلوقات الله. في هذه الآية إشارة إلى جميع الأنبياء من أُولي العزم، فبعد نوح الذي صرّح باسمه، يأتي آل إبراهيم الذين يضمّون نوحاً نفسه وموسى وعيسى ونبيّ الإسلام. وذكر آل عمران تكرار للإشارة إلى السيّدة مريم والمسيح، بالنظر لكون هذه الآية مقدّمة لبيان حالهما. 1- امتياز الأنبياء: هنا يبرز هذا السؤال: على الرغم من أنّ هذا التميّز لم يجبر الأنبياء على السير في طريق الحقّ، وأنّه لا يتعارض مع حرّية الإرادة والإختيار، ولكن ألا يعتبر نوعاً من التفضيل؟ في الجواب نقول: إنّ خلقاً مصحوباً بنظام سليم يستتبع بالضرورة مثل هذا التفاضل، فتأمّل جسم الإنسان- مثلاً- مخلوق منظّم، وللحفاظ على هذا التنظيم لابدّ من الاعتراف بالتفاضل بين عضو وعضو، إذ لو كانت جميع الخلايا في جسم الإنسان تشبه في لطافتها خلايا شبكية العين، أو تشبه في صلابتها وقوّتها خلايا عظام الساق، أو تشبه خلايا الدماغ في حساسيّتها، أو تشبه خلايا القلب في حركتها، لاختلّ حتماً نظام الجسم. إذاً لابدّ من وجود خلايا مثل خلايا الدماغ لكي تتولّى إدارة سائر أعضاء الجسم وعضلاته، وخلايا العظام المتينة لتحفظ استقامة الجسم وخلايا الأعصاب الحسّاسة لتتسلّم أبسط الإيعازات، والخلايا المتحرّكة لتخلق الحركة في الجسم. ما من أحد يستطيع أن يقول لماذا ليس الجسم كلّه دماغاً؟ أو في النباتات، لماذا لا تكون الخلايا كلّها بلطافة خلايا أوراق الورد؟ إنّ حالة كهذه ستهدم بناء النبات وتعرضه للفناء. النقطة المهمّة هي أنّ هذا التميّز الذاتيّ الضروري لإيجاد بناء منظّم ليس بسيطاً، بل هو مصحوب بمسؤولية عظيمة، هذا "الإمتياز" وهذه المسؤولية الثقيلة نفسها تحفظ توازن كفّتي ميزان الخلق. أي أن نسبة تميّز الأنبياء على سائر البشر تتناسب مع أهميّة المسؤولية التي يضطلعون بها. كما أنّ الإختلاف في تميّز الآخرين يتناسب مع مسؤولياتهم. فضلاً عن ذلك فإنّ التميّز الذاتي لا يكفي للإقتراب من الله، بل لابدّ معه من التميّز المكتسب. في الآية بعض النقاط ينبغي ذكرها: 1- ليست الآية بصدد ذكر جميع الذين اصطفاهم الله، بل تعدّد بعضاً منهم، فإذا لم يكن بعض الأنبياء من بين هؤلاء، فلا يعني ذلك أنهم ليسوا مصطفين. ثمّ إنّ "آل إبراهيم" يشمل موسى بن عمران ونبيّ الإسلام والمصطفين من أهل أيضاً لأنّهم جمعاً من "آل إبراهيم". 2- يرى "الراغب" في كتابه "المفردات" إنّ "الآل" من "الأهل"، ولكنّه خصّ بالإضافة إلى أقرباء العظماء من الناس والأشراف ودون الأزمنة والأمكنة. ولكن "الأهل" يضاف إلى الكلّ، كالزمان والمكان وغير ذلك، فيقال: أهل المدينة الفلانية، ولكن لا يقال: آل المدينة الفلانية. 3- غنّي عن القول أنّ إصطفاء آل إبراهيم وآل عمران لا يعني إصطفاء جميع أبناء إبراهيم وعمران، إذ يحتمل أن يكون بينهم حتّى من الكفّار، إنّما المقصود هو "بعض" من آل إبراهيم وآل عمران. 4- "عمران" في هذه الآية هو أبو مريم، لا أبو موسى، إذ كلّما ورد في القرآن اسم عمران كان المعنى به هو أبو مريم، كما يستدلّ على ذلك أيضاً من الآيات التالية التي تخصّ شرح حال مريم. 5- في الأحاديث العديدة عن أهل البيت (عليهم السلام) اعتبرت هذه الآية دليلاً على عصمة الأنبياء والأئمّة، وذلك لأنّ الله لا يمكن أن يصطفي المذنبين الملوّثين بالشرك والكفر والفسق. بل لابدّ أن يقع إختياره على المطهّرين المعصومين. (يستدلّ كذلك من الآية أنّ هناك مراتب للعصمة). 6- يستدلّ بعض الكتّاب المحدثين بهذه الآية على نظرية النشوء والإرتقاء، معتقدين أنّ الآية تدلّ على أنّ "آدم" لم يكن هو الإنسان الأوّل، بل كان هناك أُناس كثيرون فاصطفى الله من بينهم آدم الذي خلَّف نسلاً متميّزاً من أبنائه، وأنّ تعبير (على العالمين) دليل على ذلك. يقول هؤلاء: كان في عصر آدم مجتمع إنساني، ولذلك فليس ثمّة ما يمنع من أن يكون الإنسان الأوّل- الذي وجد قبل ذلك بملايين السنين- قد نشأ وتطوّر من حيوانات أُخرى متطوّرة، ويكون "آدم" وحده الذي اصطفاه الله. ولكن في مقابل هذا الرأي يمكن القول أن ليس هناك أيّ دليل على أنّ "عالمين" هم أُناس عاصروا آدم، بل قد يكون القصد هو مجموع المجتمعات البشرية على امتداد التاريخ. وعلى هذا يكون معنى الآية: إنّ الله اصطفى من بين جميع المجتمعات البشرية على امتداد التاريخ أفراد كان أوّلهم آدم، فنوحاً، فآل إبراهيم، فآل عمران. وبما أنّ كلّ واحد من هؤلاء كان يعيش في عصر غير عصر الآخر نفهم من ذلك أنّ القصد من "عالمين" هو البشر عموماً على إختلاف عصورهم وأزمانهم. لذلك ليس ثمّة ما يدعونا إلى الاعتقاد بأنّ آدم كان يعاصره أُناس آخرون فاصطفاه الله من بينهم، فتأمّل. ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾ من نسل بعض ﴿وَاللّهُ سَمِيعٌ﴾ للأقوال ﴿عَلِيمٌ﴾ بالنيات والأعمال.