لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير تواصل هذه الآية سرد حكاية مريم. لقد أشرنا من قبل أنّ أُمّ مريم لم تكن تصدّق إمكان قبول الأُنثى خادمة في بيت الله، لذلك كانت تتمنّى أن تلد مولوداً ذكراً، إذ لم يسبق أن اختيرت أُنثى لهذا العمل. ولكن الآية تقول إنّ الله قد قبل قيام هذه الأُنثى الطاهرة بهذه الخدمة الروحية والمعنوية، لأوّل مرّة. يقول بعض المفسّرين: إنّ دليل قبولها لهذه الخدمة أنّها لم تكن ترى العادة الشهرية أثناء خدمتها في بيت المقدس لكي لا تضطرّ إلى ترك الخدمة، أو أن حضور طعامها من الجنّة إلى محرابها دليل على قبولها. وقد يكون قبول النذر وقبول مريم قد أُبلغ للأُمّ عن طريق الإلهام. وكلمة "أنبتها" إشارة إلى تكامل مريم أخلاقياً وروحياً. كما أنّه يتضمّن نكتة لطيفة هي أنّ عمل الله هو "الإنبات" و الإنماء. أي كما أنّ بذور النباتات تنطوي على استعدادات كامنة تظهر وتنمو عندما يتعهّدها المزارع، كذلك توجد في الإنسان كلّ أنواع الإستعدادات السامية الإنسانية التي تنمو وتتكامل بسرعة إن خضعت لمنهج المربّين الإلهيّين ولمزارعي بستان الإنسانية الكبير، ويتحقّق الإنبات بمعناه الحقيقي. (وكفّلها زكريّا). "الكفالة" ضمّ شيء إلى آخر. لذلك يطلق على من يلتزم رعاية شؤون أحد الأطفال اسم "الكافل" أو "الكفيل"، أي أنّه يضمّ الطفل إليه. إذا استعملت الكلمة ثلاثية مجرّدة كانت فعلاً لازماً، وتتعدّى بنقلها إلى باب الثلاثي المزيد "كفّل" أي إنتخاب الكفيل لشخص آخر. في هذه الآية يقول القرآن: إختار الله زكريّا كي يتكفّل مريم، إذ أنّ أباها عمران قد ودّع الحياة قبل ولادتها، فجاءت بها أُمّها إلى بيت المقدس وقدّمتها لعلماء اليهود وقالت: هذه البنت هديّة لبيت المقدس، فليتعهّدها أحدكم، فكثر الكلام بين علماء اليهود، وكان كلّ منهم يريد أن يحظى بهذا الفخر، وفي احتفال خاص ـسيأتي شرحه في تفسير الآية 44 من هذه السورة- اختير زكريّا ليكفلها. وكلّما شبّت وتقدّم بها العمر ظهرت آثار العظمة والجلال عليها أكثر إلى حدّ يقول القرآن عنها: (كلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقاً). "المحراب" هو الموضع الذي يخصّص في المعبد لإمام المعبد أو لأفراد من النخبة. وذكروا في سبب تسميته بهذا الاسم أوجه كثيرة، أوجهها ثلاثة: أحدها: إنّ المحراب من "الحرب" سمّي بذلك لأنّه موضع محاربة الشيطان والأهواء. والآخر: إنّ المحراب صدر المجلس، ثمّ أُطلق أيضاً على صدر المعبد. (كان بناء المحراب عند اليهود يختلف عن بنائه عندنا، فأُولئك كانوا يبنون المحراب مرتفعاً عن سطح الأرض بعدّة درجات بين حائطين مرتفعين يحفظانه، بحيث كانت تصعب رؤية من بداخل المحراب من الخارج). والثالث: انه يطلق على كلّ المعبد، وهو المكان الذي يخصّص للعبادة ومجاهدة النفس والشيطان. كَبُرت مريم تحت رعاية زكريّا، وكانت غارقة في العبادة والتعبّد. بحيث إنّها ـكما يقول ابن عبّاس- عندما بلغت التاسعة من عمرها كانت تصوم النهار وتقوم الليل بالعبادة، وكانت على درجة كبيرة من التقوى ومعرفة الله حتّى أنّها فاقت الأحبار والعلماء في زمانها(1). وعندما كان زكريّا يزورها في المحراب يجد عندها طعاماً خاصّاً، فيأخذه العجب من ذلك. سألها يوماً: (يا مريمُ أنّى لك هذا). فقالت: (هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب). الآية لا تذكر شيئاً عن ماهيّة هذا الطعام ومن أين جاء، لكنّ بعض الأحاديث الواردة في تفسير العيّاشي وغيره من كتب الشيعة والسنّة تفيد أنّه كان فاكهة من الجنّة في غير فصلها تحضر بأمر الله إلى المحراب. وليس ما يدعو إلى العجب في أن يستضيف الله عبداً تقيّاً. كما أنّ اعتبار "الرزق" طعاماً من الجنّة يتبيّن من القرائن التي نراها في ثنايا الآية. فأوّلاً كلمة "رزقاً" النكرة دليل على أنّ زكريّا لم يعرف نوع هذا الرزق. وثانياً جواب مريم التي قالت "من عند الله" دليل آخر. وثالثاً انفعال زكريّا وطلبه ولداً من الله- كما نقرأ في الآية التالية- دليل ثالث على ذلك. بَيدَ أنّ بعض المفسّرين- مثل صاحب المنار- يرون أنّ "رزقاً" تعني هذا الطعام الدنيويّ المألوف. يقول ابن جرير: إنّ قحطاً أصاب بني إسرائيل يومئذ، ولم يعد زكريّا قادراً على سدّ جوعة مريم. لذلك اقترعوا فكانت من نصيب رجل نجّار، فأخذ هذا يقتطع من كسبه الطيّب الحلال ليهيّيء الطعام لها، فكان هذا هو الطعام الذي يراه زكريّا في محرابها ويعجب من وجوده في تلك الظروف الصعبة. وكان جواب مريم يعني أنّ الله قد سخّر لي مؤمناً فأحبّ القيام بهذه الخدمة الشاقّة. ولكن- كما قلنا- هذا التفسير لا يتّسق مع القرائن الموجودة في الآية، ولا مع الأحاديث الواردة في تفسيرها، ومنها ما ورد في تفسير العيّاشي عن الإمام الباقر(ع) ما ملخّصه أنّ رسول الله (ص) دخل يوماً على ابنته فاطمة (عليها السلام) وهو يعلم أنّها لم تكن تملك طعاماً يذكر منذ أيّام، فوجد عندها طعاماً وافراً خاصّاً، فسألها عنه، فقالت: هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب. فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)لعليّ (عليه السلام): ألا أُحدّثك بمثلك ومثلها؟ قال: بلى، قال: مثل زكريّا إذ دخل على مريم المحراب فوجد عندها رزقاً، قال: يا مريم أنّى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله، إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب...(2). وفيما يتعلّق بعبارة "بغير حساب" فقد شرحنا ذلك في تفسير الآية 202 من سورة البقرة، والآية 27 من هذه السورة. ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا﴾ رضي بها في النذر مكان الذكر ﴿بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ بوجه حسن يقبل به النذور ﴿وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ رباها تربية حسنة بما يصلحها في جميع أحوالها ﴿وَكَفَّلَهَا﴾ أي الله جعل كفيلها ﴿زَكَرِيَّا﴾ وقرىء بالتخفيف وكان زوج أختها ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ﴾ الصومعة التي بناها لها أو المسجد أو أشرف مواضعه سمي به لأنه محل محاربة الشيطان ﴿وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً﴾ فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ﴿قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى﴾ من أين ﴿لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ﴾ قيل تكلمت صغيرة كعيسى وما رضعت قط وكان رزقها يأتيها من الجنة كرامة لها ﴿إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ بغير تقدير لكثرته أو بغير استحقاق تفضلا.