التّفسير
كفالة مريم:
هذه الآية تشير إلى جانب آخر من قصة مريم وتقول بأن ما تقدّم من قصة مريم وزكريّا إنّما هو من أخبار الغيب (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك) لأنّ هذه القصة بشكلها الصحيح والخالي من شوائب الخرافة لا توجد في أيِّ من الكتب السابقة.
مضافاً إلى أن سند هذه القصة هو وحي السماء.
ثمّ تضيف الآية: (وما كنت لديهم اذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم وما كنتلديهم اذ يختصمون)أي أنكِ لم تكن حاضراً حينذاك.
بل جاءك الخبرعن طريق الوحي.
سبق أن قلنا إن أُمّ مريم بعد أن وضعتها لفّتها في قطعة قماش وأتت بها إلى المعبد وخاطبت علماء بني إسرائيل وأشرافهم بقولها: هذه المولودة قد نُذرت لخدمة بيت الله، فليتعهّد أحدكم بتربيتها.
ولمّا كانت مريم من أُسرة معروفة "آل عمران"، أخذ علماء بني إسرائيل يتنافسون في الفوز بتعهّد تربيتها.
وأخيراً اتّفقوا على إجراء القرعة بينهم، فجاؤوا إلى شاطىء نهر وأحضروا معهم أقلامهم وعصيّهم التي كانوا يقترعون بها.
كتب كلّ واحد منهم اسمه على قلم من الأقلام، وألقوها في الماء، فكلّ قلم غطس في الماء خسر صاحبه، والرابح يكون من يطفو قلمه على الماء:غطس القلم الذي كتب عليه اسم زكريا، ثمّ عاد وطفا على سطحه،وبذلك أصبحت مريم في كفالته، وقد كان في الحقيقة أجدرهم بذلك، فهو نبيٌ وزوج خالةمريم.
الإقتراع الحلّ الأخير:
يستفاد من هذه الآية والآيات الأُخرى الخاصّة بيونس في سورة الصافّات أنّ من الممكن اللجوء إلى القرعة لحلّ النزاع والخصام الذي يصل إلى طريق مسدود بحيث لا يكون هناك أيّ حلّ مقبول من أطراف النزاع.
هذه الآية بالإضافة إلى الأحاديث الواردة عن أئمّة الإسلام كانت سبباً في إعتبار القرعة قاعدة فقهية يجري بحثها في الكتب الإسلامية.
ولكن شرط الإلتجاء إلى القرعة هو الوصول إلى طريق مسدود تماماً، كما قلنا: لذلك إذا كان من الممكن العثور على طريق لحلّ مشكلة مّا فلا يجوز اللجوء إلى القرعة.
ليس للإقتراع طريقة خاصّة في الإسلام، فيجوز إتّخاذ العصي، أو الحصى، أو الورق وغير ذلك وسيلة له، على أن لا يكون فيه أيّ تواطؤ.
من الواضح أنّ الإسلام لا يجيز الربح والخسارة عن طريق القرعة، لأنّ الربح والخسارة ليسا من المشاكل التي يستعصي حلّها ليلجأ فيها إلى القرعة.
لذلك فالربح الناشىء عن القرعة غير مشروع في الإسلام.
لابدّ من الإشارة أيضاً إلى أنّ القرعة لا تقتصر على حلّ المنازعات والإختلافات بين الناس، بل يمكن بها حلّ المشاكل المستعصية الأُخرى أيضاً.
فمثلاً، كما جاء في الأحاديث: وطأ شخص شاة، ثمّ أطلقها بين الغنم بحيث لا يمكن التعرّف عليها، فيجب عندئذ إخراج واحدة منها بطريق القرعة والإمتناع عن أكل لحمها، وذلك لأنّ الإمتناع عن أكل لحمها جميعاً يشكل ضرراً كبيراً، كما أنّ أكل لحومها جميعاً غير جائز.
فهنا تحلّ القرعة المشكلة.
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ﴾ أي ما سبق من الغيوب التي لا تعرف إلا بالوحي ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ﴾ التي كانوا يكتبون بها التوراة للإقراع أو قداحهم ليعلموا ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ تنافسا في كفالتها.