لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير الدعوة إلى الإتّحاد: بدأ القرآن في الآيات السابقة بدعوة المسيحيّين إلى الاستدلال المنطقي، وإذ رفضوا، دعاهم إلى المباهلة، فكان لهذا أثره في نفوسهم، فرفضوها ولكنّهم رضخوا لشروط إعتبارهم ذمّيّين. فانتهز القرآن هذه الفرصة من استعدادهم النفسي، وعاد إلى طريقة الاستدلال. غير أنّ الاستدلال هذه المرّة يختلف عن الاستدلال السابق إختلافاً كبيراً. في الآيات السابقة كانت الدعوة إلى الإسلام (بكلّ تفاصيله). ولكنّ الدعوة هذه المرّة تتّجه إلى النقاط المشتركة بين الإسلام وأهل الكتاب. وبهذا يعلّمنا القرآن درساً، مفاده: أنّكم إذا لم توفّقوا في حمل الآخرين على التعاون معكم في جميع أهدافكم، فلا ينبغي أن يقعد بكم اليأس عن العمل، بل اسعوا لإقناعهم بالتعاون معكم في تحقيق الأهداف المشتركة بينكم، كقاعدة للإنطلاق إلى تحقيق سائر أهدافكم المقدّسة (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاَّ نعبد إلاَّ الله ولا نشرك به شيئاً). هذه الآية تعتبر نداء "الوحدة والإتّحاد" إلى أهل الكتاب، فهي تقول لهم: إنّكم تزعمون- بل تعتقدون- أنّ التثليث (أي الاعتقاد بالآلهة الثلاثة) لا ينافي التوحيد، لذلك تقولون بالوحدة في التثليث. وهكذا اليهود يدعون التوحيد وهم يتكلّمون بكلام فيه شرك ويعتبرون "العزير" ابن الله. يقول لهم القرآن: إنّكم جميعاً ترون التوحيد مشتركاً، فتعالوا نضع يداً بيد لنحيي هذا المبدأ المشترك بدون لفّ أو دوران، ونتجنّب كلّ تفسير يؤدّي إلى الشرك والإبتعاد عن التوحيد. والملفت للنظر أن الآية الشريفة تؤكّد موضوع التوحيد في ثلاث تعابير مختلفة، فأوّلاً ذكرت (ألاَّ نعبد إلاَّ الله) وفي الجملة الثانية (ولا نشرك به شيئاً)وفي المرّة الثالثة قالت (ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله). ولعلّ في هذه الجملة الأخيرة إشارة إلى أحد موضوعين: "الأوّل": أنّه لا يجوز تأليه المسيح، وهو بشر مثلنا ومن أبناء نوعنا. "والثاني": أنّه لا يجوز الاعتراف بالعلماء المنحرفين الذين يستغلّون مكانتهم ويغيّرون حلال الله وحرامه كيفما يحلو لهم، ولا يجوز اتّباع هؤلاء. ويتّضح ممّا سبق من الآيات القرآنية أنّه كان هناك بين علماء أهل الكتاب جماعات يحرّفون أحكام الله بحسب "مصالحهم" أو "تعصّبهم". إنّ الإسلام يرى أنّ من يتّبع أمثال هؤلاء دون قيد أو شرط وهو يعلم بهم، إنّما هو يعبدهم بالمعنى الواسع لكلمة العبادة. إنّ سبب هذا الحكم واضح، فإن حقّ وضع القوانين والتشريعات يعود إلى الله، فإذا قرّر أحد هذا الحقّ لغير الله فقد أشرك. يقول المفسّرون في ذيل تفسير هذه الآية إنّ "عدي بن حاتم" الذي كان نصرانياً ثمّ أسلم، عندما سمع هذه الآية، فهِم من كلمة "أرباب" أنّ القرآن يقول إنّ أهل الكتاب يعبدون بعض علمائهم. فقال للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): ما كنّا نعبدهم يا رسول الله. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أما كانوا يحلّون لكم ويحرّمون فتأخذون بقولهم؟ فقال: نعم. فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): هو ذاك(1). في الواقع يعتبر الإسلام الرقّ والاستعمار الفكري نوعاً من العبودية والعبادة لغير الله، وهو كما يحارب الشرك وعبادة الأصنام، يحارب كذلك الاستعمار الفكري الذي هو أشبه بعبادة الأصنام. ولابدّ من الإشارة إلى أنّ "أرباب" جمع، لذلك لا يمكن أن نقول إنّ المقصود هو النهي عن عبادة عيسى وحده. ولعلّ النهي يشمل عبادة عيسى وعبادة العلماء المنحرفين. (فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون). لو أنّهم- بعد دعوتهم دعوة منطقية إلى نقطة التوحيد المشتركة- أصرّوا على الإعراض، فلابدّ أن يقال لهم: اشهدوا أنّنا قد أسلمنا للحق، ولم تسلموا، وبعبارة اُخرى: فاعلموا من يطلب الحق، ومن يتعصّب ويعاند. ثمّ قولوا لهم (اشهدوا بأنّا مسلمون) فلا تأثير لعنادكم وعصيانكم وابتعادكم عن الحقّ في أنفسنا، وإنّا ما زلنا على طريقنا- طريق الإسلام- سائرون، لا نعبد إلاَّ الله، ولا نلتزم إلاَّ شريعة الإسلام، ولا وجود لعبادة البشر بيننا. بحث رسائل النبيّ إلى رؤساء العالم: يقول التاريخ: عندما استقرّ الإسلام نسبيّاً في الحجاز، أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)رسائل إلى عدد من كبار رؤساء العالم في ذلك العصر. في بعض هذه الرسائل استند إلى هذه الآية الداعية إلى التوحيد- المبدأ المشترك بين الأديان السماوية -. ولأهميّة الموضوع ندرج بعضاً من تلك الرسائل: 1- رسالة إلى المقوقس(2) "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد بن عبدالله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتّبع الهدى. أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرّتين، فإن تولّيت فإنّما عليك إثم القبط(3). يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلاَّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون"(4). حمل "حاطب بن أبي بلتعة" رسالة النبيّ (ص) إلى المقوقس حاكم مصر، فوجده قد رحل إلى الإسكندرية، فركب إليه، وسلّمه الرسالة، ثمّ قال لحاطب: مامنعه إن كان نبيّاً أن يدعو على من خالفه وأخرجه من بلده إلى غيرها أن يسلّطعليهم؟ فقال له حاطب: ألست تشهد أنّ عيسى بن مريم رسول الله؟ فماله حيث أخذه قومه، فأرادوا أن يقتلوه، أن لا يكون دعا عليهم، أن يهلكهم الله تعالى، حتّى رفعه الله إليه؟ قال: أحسنت أنت حكيمٌ من عند حكيم. ثمّ قال له حاطب: إنّه كان قبلك من يزعم أنّه الربّ الأعلى- يعني فرعون- فأخذه الله نكال الآخرة والأُولى فانتقم به، ثمّ انتقم منه، فاعتبر بغيرك،ولا يعتبر غيرُك بك. إنّ هذا النبيّ دعا الناس، فكان أشدّهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمرى، ما بشارة موسى بعيسى عليهما الصلاة والسلام، إلاَّ كبشارة عيسى بمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما دعاؤنا إيّاك إلى القرآن، إلاَّ كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكلّ نبيّ أدرك قوماً فهم أُمته، فالحقّ عليهم أن يطيعوه، فأنت ممّن أدرك هذا النبيّ، ولسنا ننهاك عن دين المسيح بل نأمرك به. بقي حاطب بن ا بي بلتعة أيّاماً ينتظر جواب المقوقس على رسالة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعدها استدعاه المقوقس إلى قصره واستزاده معرفة بالإسلام وقال له: إلى ما يدعو محمّد؟ قال حاطب: إلى أن نعبد الله وحده، ويأمر بالصلاة، خمس صلوات في اليوم والليلة، ويأمر بصيام رمضان، وحجّ البيت، والوفاء بالعهد، وينهي عن أكل الميتّه، والدم... ثمّ شرح له بعض جوانب حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم). فقال المقوقس: هذه صفته، وكنت أعلم أن نبيّاً قد بقي، وكنت أظنّ أنّ مخرجه بالشام، وهناك كانت تخرج الأنبياء من قبله، فأراه قدخرج من أرض العرب. ثمّ دعا كاتبه الذي يكتب له بالعربية فكتب إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمّد بن عبدالله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك. أمّا بعد، فقد قرأت كتابك،وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أنّ نبيّاً قد بقي، وقد كنت أظنّ أنّه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك..." ثمّ عدّد له الهدايا التي بعثها إليه وختم رسالته بعبارة "والسلام عليك"(5). تقول كتب التاريخ إنّ المقوقس أرسل نحو أحد عشر نوعاً من الهدايا وبينها طبيب أرسله لمعالجة مرضى المسلمين. فقبل رسول الله (ص) الهدايا، لكنّه أرجع الطبيب قائلاً: "إنّا قوم لا نأكل حتّى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع" مشيراً بذلك إلى أنّ هذه القاعدة في تناول الطعام كافية لحفظ صحّة المسلمين (ولعلّه- إضافة إلى هذه القاعدة الصحّية العظيمة- لم يكن يأمن جانب الطبيب الذي كان مسيحياً وربما كان الطبيب متعصّباً أيضاً، فلم يشأ أن يترك أرواح المسلمين بين يديه). إن إكرام المقوقس سفير النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، والهدايا التي أرسلها إليه، وتقديم اسم محمّد(ص) على اسمه، تدلّ كلّها على أنّه كان قد قبل دعوة رسول الله (ص) في قرارة نفسه، أو أنّه- على الأقل- مالَ إلى الإسلام. ولكنّه لكيّ لا يهتزّ مركزه امتنع عن إظهار ذلك علناً. 2- رسالة إلى قيصر الروم "بسم الله الرحمن الرحيم. من محمّد بن عبدالله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتّبع الهدى. أمّا بعد، فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرّتين فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الأريسيّين(6). يا اهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاَّ نعبد إلاَّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذّ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون". كان حامل رسالة رسول الله (ص) إلى القيصر رجل اسمه "دحية الكلبي". وتهيّأ السفير للإنطلاق نحو أرض الروم. ولكنّه قبل أن يصل القسطنطنية، عاصمة القيصر، علم أنّ القيصر قد يمّم شطر بيت المقدس للزيارة. فاتّصل بحاكم "بصرى" الحارث بن أبي شمر وكشف له عن مهمّته. ويبدو أنّ رسول الله (ص) كان قد أجاز دفع الرسالة إلى حاكم (بصرى) ليوصلها هذا إلى القيصر. بعد أن اطّلع الحاكم على الأمر، استدعى عدي بن حاتم وكلّفه أن يسافر مع دحية إلى بيت المقدس ليوصل الرسالة إلى القيصر. إلتقى السفيرُ قيصرَ في حمص. وكانت الحاشية قبل ذلك قد أفهموا دحية أنّ عليه أن يسجد أمام القيصر، وأن لا يرفع رأسه أبداً حتّى يأذن له. فقال دحية: لا أفعل هذا أبداً، ولا أسجد لغير الله. فأعجبوا بمنطقه المتين. وقال له أحد رجال البلاط: إذاً لك أن تضع الرسالة تجاه منبر قيصر وتنصرف، إنّ أحداً غير القيصر لا يمسّها. فشكره دحية على ذلك، وترك الرسالة في ذلك المكان، وانصرف. فتح قيصر الرسالة، وجلب إنتباهه افتتاحها باسم الله، وقال: أنا لم أرَ رسالة مثل هذه غير رسالة سليمان. ثمّ طلب مترجمه ليقرأ له الرسالة ويترجمها. احتمل قيصر أن يكون كاتب الرسالة هو النبيّ الموعود في التوراة والإنجيل. فعزم على معرفة دقائق حياة هذا النبيّ. فأمر بالبحث في الشام لعلّهم يعثرون على من يعرف شيئاً عن محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم). واتّفق أن كان أبو سفيان وجمع من قريش قد قدموا إلى الشام ـالتي كانت الجناح الشرقي للروم- للتجارة، فاتّصل بهم رجال القيصر وأخذوهم إلى بيت المقدس، فسألهم القيصر: أيّكم أقرب نسباً من هذا الرجل الذي يزعم أنّه نبيّ؟ فقال أبو سفيان: أنا. ثمّ قال القيصر للقريشيين- على طريق ترجمانه ـ: إني سائل (أبا سفيان) عن هذا الرجل الذي يزعم أنّه نبيّ. فإن كذبني فكذّبوه. فقال أبو سفيان: وايم الله لولا مخافة أن يؤثّر عليّ الكذب لكذبت. 1- ثمّ قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟ أبو سفيان: هو فينا ذو حسب. 2- القيصر: هل كان من آبائه ملك؟ أبو سفيان: لا. 3- القيصر: هل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ أبو سفيان: لا. 4- القيصر: من يتّبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ أبو سفيان: بل ضعفاؤهم. 5- القيصر: أيزيدون أم ينقصون؟ أبو سفيان: بل يزيدون. 6- القيصر: هل يرتدّ أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ أبو سفيان: لا. ثمّ استمرّ الحوار بين الاثنين عن موقف قريش من النبيّ (ص) وعن سجاياه ثمّ قال القيصر: إن يكن ما تقول حقّاً فإنّه نبيّ، وقد كنت أعلم أنّه خارج، ولم أكن أظنّه منكم، ولو أعلم أنّي أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت قدميه- حسب تقاليد الاحترام يومئذ- وليبلغن ملكه ما تحت قدميّ، ثمّ دعا بكتاب رسول الله فقرأه ودعا دحية واحترمه وكتب جواب الرسالة وضمنّها بهدية وارسلها الى الرسول (ص) وأظهر في جواب الرسالة ولاءه ومحبته إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ يعم أهل الكتابين أو نصارى نجران أو يهود بالمدينة ﴿تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء﴾ مستوية ﴿بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ لا نخلف فيها الرسل والكتب وهي ﴿أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾ في عبادة وغيرها ﴿وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ﴾ لا نقول عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحليل والتحريم إذ من أصغى إلى ناطق فقد عبده ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ عن التوحيد ﴿فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ أي لزمتكم الحجة فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم.