(ولا يأمُركم أن تتّخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً).
هذه تكملة لما بحث في الآية السابقة، فكما أنّ الأنبياء لا يدعون الناس إلى عبادتهم، فإنّهم كذلك لا يدعونهم إلى عبادة الملائكة وسائر الأنبياء.
وفي هذا جواب لمشركي العرب الذين كانوا يعتقدون أنّ الملائكة هم بنات الله، وبذلك يسبغون عليهم نوعاً من الاُلوهية، ومع ذلك كانوا يعتبرون أنفسهم من أتباع دين إبراهيم.
كذلك هو جواب للصابئة الذين يقولون إنّهم أتباع "يحيى"، وكانوا يرفعون مقام الملائكة إلى حدّ عبادتهم.
وهو أيضاً ردّ على اليهود الذين قالوا إنّ "عزيراً" ابن الله، أو النصارى الذين قالوا إن "المسيح" ابن الله، وأضفوا عليه طابعاً من الربوبية، فالآية تردّ هؤلاء جميعاً وتقول إنّه لا يليق بالأنبياء أن يدعو الناس إلى عبادة غير الله.
وفي الختام تقول الآية (أيأمُركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون).
أيمكن أن يدعوكم النبيّ إلى الكفر بعد أن اخترتم الإسلام ديناً؟
واضح أنّ "الإسلام" هنا يقصد به معناه الأوسع، كما هي الحال في مواضع كثيرة من القرآن، وهو التسليم لأمر الله والإيمان والتوحيد.
أي كيف يمكن لنبيّ أن يدعو الناس أوّلاً إلى الإيمان والتوحيد، ثمّ يدلّهم على طريق الشرك؟ أو كيف يمكن لنبيّ أن يهدم ما بناه الأنبياء في دعوتهم الناس إلى الإسلام.
فيدعوهم إلى الكفر والشرك؟
تنوّه الآية ضمنيّاً بعصمة الأنبياء وعدم إنحرافهم عن مسير إطاعة الله(1).
ملاحظة
منع عبادة البشر:
تدين هذه الآيات بصراحة كلّ عبادة، وخاصّة عبادة البشر، سوى عبادة الله، وتربّي في الإنسان روح الحرّية واستقلال الشخصية، تلك الروح التي لا يكون بدونها جديراً بحمل اسم إنسان.
نعرف من خلال التاريخ العديد من الأشخاص الذين كانوا، قبل الوصول إلى السلطة، يتميّزون بالبراءة ويدعون الناس إلى الحقّ والعدالة والحرّية والإيمان.
ولكنّهم ما أن صعدوا عروش السلطة والهيمنة على المجتمع غيّروا سيرتهم شيئاً فشيئاً وانحازوا إلى فكرة عبادة الشخصية ودعوا الناس إلى عبادتهم.
في الواقع، أنّ من أساليب تمييز "دعاة الحقّ" عن "دعاة الباطل" هو هذا.
فدعاة الحقّ- وعلى رأسهم الأنبياء والأئمّة- كانوا وهم في قمّة السلطة، كما كانوا قبل أن تكون لهم أيّة سلطة، يدعون إلى الأهداف الدينية المقدّسة والإنسانية والتوحيد والحرّية.
أمّا دعاة الباطل، فإنّ أوّل ما يبادرون إليه عند وصولهم السلطة هو الدعوه لأنفسهم وحثّ الناس على نوع من عبادتهم، نتيجة تملّق الناس الضعفاء المحيطين بهم، وكذلك نتيجة ضيق أُفقهم وغرورهم.
هناك حديث عن الإمام علي (عليه السلام) تظهر من خلاله شخصيّته الكبيرة الفذّة، ويعتبر دليلاً وشاهداً على هذا البحث.
عند وصول الإمام (عليه السلام) إلى أرض الأنبار- إحدى مدن العراق الحدودية- خرّ جمع من الدهّاقين ساجدين أمامه، بحسب التقاليد التي اعتادوا عليها، فغضب الإمام من فعلتهم هذه وصرخ فيهم: "ما هذا الذي صنعتموه؟ فقالوا: خُلُقٌ منّا نعظّم به أمراءنا.
فقال: والله ما ينتفع بهذا أُمراؤكم، وأنّكم لتشقّون على أنفسكم في دنياكم وتشقّون به في آخرتكم، وما أخسر المشقّة وراءها العقاب، وأربح الدعة معها الأمان من النار".
﴿وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ إنكار، والضمير المستتر للبشر أو الله.