سبب النّزول
المستفاد من الروايات الواردة حول هذه الآيات وما ينقله المفسّرون هو: أن اليهود طرحوا إشكالين آخرين على رسول الله (ص) ضمن جدالهم له، أحدهما: تحليله لحوم الإبل وألبانها، وقد كانت حراماً في دين إبراهيم (عليه السلام) وكانوا يقولون: كلّ شيء نحرمه فهو كان محرماً على نوح وإبراهيم، فكيف تحلله وأنت تدعي متابعة إبراهيم وإنك على ملته ودينه؟
والآخر: صلاته باتجاه الكعبة فكانوا يقولون: كيف تدعي يا محمّد الإقتداء بملّة إبراهيم (عليه السلام) والنبيين العظام، وقد كان جميع الأنبياء من ولد إسحاق يولون وجوههم شطر "بيت المقدس" ويصلون باتجاهه وأنت تصلي شطر الكعبة وتعرض عن "بيت المقدس"؟
فجاءت الآيات الثلاثة تردّ على إنكارهم للأمر الأول وتفند زعمهم، بينما تكفلت الآيات القادمة الردّ على اعتراضهم الأخير.
التّفسير
صرحت الآية الأُولى من هذه الآيات الثلاث بتفنيد كلّ المزاعم اليهودية حول تحريم بعض أنواع الطعام الطيب (مثل لحوم الإبل وألبانها) وردت على هذه الكذبة بقولها: (كلّ الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلاَّ ما حرّم إسرائيل(1) على نفسه من قبل أن تنزل التوراة).
أما لماذا حرّم يعقوب على نفسه بعض الأطعمة؟ وما هو نوع الأطعمة التي حرمها على نفسه فلم يرد في الآية أي توضيح بشأنها، بيد أن المستفاد من الروايات الإسلامية هو أن يعقوب كان- كما قيل- كلّما أكل من لحم الإبل أخذه وجع العرق الذي يقال له عرق النساء(2) فعزم إن شفاه الله على أن يحرم لحم الإبل على نفسه، فاقتدى به أتباعه في هذا، حتّى اشتبه الأمر على من أتوا من خلفهم فيما بعد فتصور بعض أنه تحريم إلهي، فاعتبروا ذلك حكماً ونسبوه إلى الله، وادعوا بأنه حرم عليهم لحم الإبل، فنزلت الآية تفند هذا الزعم ببيان علّة الإلتباس، وتصرّح بأن نسبه هذا التحريم إلى الله سبحانه محض إختلاق.
وعلى هذا فقد كان كلّ الطعام حلالاً، ولم يكن شيء من الطيبات منه حراماً على بني إسرائيل قبل نزول التوراة، كما يفيد قوله سبحانه (من قبل أن تنزل التوراة) وإن كان قد حرمت- بعد نزول التوراة ومجيء موسى بن عمران- بعض الأطعمة الطيبة، على اليهود لظلمهم وعصيانهم، تنكيلاً بهم، وجزاءً لظلمهم.
وتأكيداً لهذه الحقيقة أمر الله نبيه في هذه الآية أن يطلب من اليهود بأن يأتوا بالتوراة الموجودة عندهم ويقرأوها ليتبين كذب ما ادعوه، وصدق ما أخبر به الله حول حلية الطعام الطيب كله إذ قال: (قل فأتوابالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين).
ولكنّهم أعرضوا عن تلبية هذا الطلب لعلمهم بخلو التوراة عن التحريم الذي أدعوه.
﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ﴾ يعقوب ﴿عَلَى نَفْسِهِ﴾ وهو لحم الإبل ﴿مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ فما حرم عليهم بعد نزولها كان لظلمهم وبغيهم ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أن تحريم الطيبات كان قديما.