لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
3- فيه آيات بينات مقام إبراهيم: إن في هذا البيت معالم واضحة وعلائم ساطعة لعبادة الله وتوحيده، وفي تلك النقطة المباركة من الآثار المعنوية ما يبهر العيون ويأخذ بمجامع القلوب. وإن بقاء هذه الآثار والمعالم رغم كيد الكائدين وإفساد المفسدين الذين كانوا يسعون إلى إزالتها ومحوها لَمن تلك الآيات التي يتحدث عنها القرآن في هذا الكلام العلوي. فها هي آثار جليلة من إبراهيم (عليه السلام) لا تزال باقية عند هذا البيت مثل: زمزم والصفا والمروة، والركن(3)، والحطيم(4)، والحجر الأسود، وحجر إسماعيل(5)الذي يعتبر كلّ واحد منها تجسيداً حيّاً لتاريخ طويل، وذكريات عظيمة خالدة. ولقد خصّ "مقام إبراهيم" بالذكر من بين كلّ هذه الآثار والآيات لأنه المحل الذي كان قد وقف فيه الخليل (عليه السلام) لبناء الكعبة، أو لإتيان مناسك الحجّ، أو لإطلاق الدعوة العامّة التي وجهها إلى البشرية كافة، والأذان بهم ليحجوا هذا البيت، ويلتقوا في هذا الملتقى العبادي التوحيدي العظيم. وعلى كلّ حال فإن هذا المقام لَمن أهم الآيات التي مر ذكرها، وأنها لَمن أوضح الدلائل وأقوى البراهين على ما شهدته هذه النقطة من العالم من التضحيات والذكريات، والإجتماعات والحوادث، البالغة الأهمية. يبقى أن نعرف أن ثمة خلافاً بين المفسّرين في أن المراد بمقام إبراهيم هل هو خصوص النقطة التي توجد فيها الصخرة التي لا تزال تحمل أثر قدمه الشريف، أو أنه الحرم المكي، أو أنة جميع المواقف التي ترتبط بمناسك الحجّ، ولكن في الرواية المنقولة عن الإمام الصادق (عليه السلام) في كتاب الكافي(6) إشارة إلى الإحتمال الأول. 4- ومن دخله كان آمناً: لقد طلب إبراهيم (عليه السلام) من ربه بعد الإنتهاء من بناء الكعبة، أن يجعل بلد مكة آمناً إذ قال (رب اجعل هذا البلد آمناً)(7)، فاستجاب الله له، وجعل مكة بلداً آمناً، ففيه أمن للنفوس والأرواح، وفيه أمن للجموع البشرية التي تفد إليه وتستلهم المعنويات السامية منه، وفيه أمن من جهة القوانين الدينية، فإن الأمن في هذا البلد قد بلغ من الإهتمام به واحترامه أن منع فيه القتال منعاً باتاً، وأكيداً. وقد جعلت الكعبة بالذات مأمناً وملجأ في الإسلام لا يجوز التعرض لمن لجأ إليها أبداً، وهو أمر يشمل الحيوانات أيضاً إذ يجب أن تكون في أمان من الأذى والمزاحمة إذا هي التجأت إلى هذه النقطة من الأرض. فإذا التجأ إنسان إلى الكعبة لم يجز التعرض له حتّى لو كان قاتلاً جانياً، بيد أنه حتّى لا تستغل حرمة هذا البيت وقدسيتها الخاصّة، وحتّى لا تضيع حقوق المظلومين سمح الإسلام بالتضييق في المطعم والمشرب على الجناة أو القتلة اللاجئين إليه ليضطروا إلى مغادرته ثمّ ينالوا جزاءهم العادل. وبعد أن استعرض القرآن الكريم فضائل هذا البيت وعدد مزاياه، أمر الناس بأن يحجوا إليه- دون استثناء- وعبر عن ذلك بلفظ مشعر بأن مثل هذا الحجّ هو في الحقيقة دين لله على الناس، فيتوجب عليهم أن يؤدوه ويفرغوا ذممهم منه إذ قال (ولله على الناس حجّ البيت). وتعني لفظة "الحجّ" أصلاً القصد، ولهذا سميت الجادة بالمحجة (على وزن مودة) لأنها توصل سالكها إلى المقصد، كما أن لهذا السبب نفسه سمي الدليل بـ"الحجة" لأنه يوضح المقصود. أما وجه تسمية هذه الزيارة وهذه المناسك الخاصة بالحجّ فلأن قاصد الحجّ إنّما يخرج وهو "يقصد زيارة بيت الله" ولهذا أضيفت لفظة الحجّ إلى البيت فقال تعالى (حج البيت). ثم إننا قد أشرنا سابقاً إلى أن مراسم الحج هذه قد سنت واُسست منذ عهد إبراهيم (عليه السلام) ثمّ استمرت حتّى العهد الجاهلي حيث كان العرب الجاهليون يمارسونها ويؤدونها، ولكنها شرعت في الإسلام في صورة أَكمل، وكيفية خالية عن الخرافات التي لصقت بها من العهد الجاهلي(8) ولكن المستفاد من الخطبة القاصعة في نهج البلاغة وبعض الأحاديث والروايات أن فريضة الحج شرعت أول مرّة في زمن آدم (عليه السلام) إلاَّ أن اتخاذها الصفة الرسمية يرتبط- في الأغلب- بزمن الخليل (عليه السلام). إن الحجّ يجب على كلّ إنسان مستطيع، في العمر مرّة واحدة، ولا يستفاد من الآية المبحوثة هنا أكثر من ذلك، لأن الحكم فيها مطلق، وهو يحصل بالإمتثال مرّة واحدة. إن الشرط الوحيد الذي ذكرته الآية الحاضرة لوجوب الحجّ واستقراره هو "الاستطاعة" المعبر عنها بقوله سبحانه (من استطاع إليه سبيلاً). نعم، قد فسرت الاستطاعة في الأحاديث الإسلامية والكتب الفقهية بـ "الزاد والراحلة (أي الإمكانية المالية لنفقات سفر الحجّ ذهاباً وإياباً) والقدرة الجسدية والتمكن من الإنفاق على نفسه وعائلته بعد العودة من الحجّ" والحقّ أن جميع هذه الأُمور موجودة في الآية، إذ لفظة "استطاع" التي تعني القدرة والإمكانية تشمل كلّ هذه المعاني و الجهات. ثمّ أنه يستفاد من هذه الآية أن هذا القانون- مثل بقية القوانين الإسلامية- لايختصّ بالمسلمين، فعلى الجميع أن يقوموا بفريضة الحجّ مسلمين وغير مسلمين، وتؤَيد ذلك القاعدة المعروفة: "الكفّار مكلفون بالفروع كما أنهم مكلفون بالاُصول". وإن كانت صحّة هذه المناسك وأمثالها من العبادات مشروطة بقبولهم للإسلام واعتناقهم إياه، ثمّ أدائها بعد ذلك، ولكن لابدّ أن يعلم بأن عدم قبولهم للإسلام لا يسقط عنهم التكليف، ولا يحررهم من هذه المسؤولية. وما قلناه في هذه الآية في هذا المجال جار في أمثالها أيضاً. هذا وقد بحثنا باسهاب حول أهمية الحجّ وفلسفته وآثاره الفردية والإجتماعية عند الحديث عن الآيات 196 إلى 203 من سورة البقرة. أهمية الحجّ وللتأكيد على أهمية الحجّ قال سبحانه في ذيل الآية الحاضرة (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) أي أن الذين يتجاهلون هذا النداء، ويتنكرون لهذه الفريضة، ويخالفونها لا يضرون بذلك إلاَّ أنفسهم لأن الله غني عن العالمين، فلا يصيبه شيء بسبب اعراضهم ونكرانهم وتركهم لهذه الفريضة. إن لفظة "كفر" تعني في الأصل الستر والإخفاء وأما في المصطلح الديني فتعطي معنى أوسع، فهي تعني كلّ مخالفة للحقّ وكل جحد وعصيان سواء في الاُصول والإعتقاد، أو في الفروع والعمل، فلا تدلّ كثرة استعمالها في الجحود الإعتقادي على إنحصار معناه في ذلك، ولهذا استعملت في "ترك الحجّ". ولذلك فسّر الكفر في هذه الآية عن الإمام الصادق (عليه السلام) بترك الحجّ(9). وبعبارة اُخرى أن للكفر والإبتعاد عن الحق- تماماً مثل الإيمان والتقرب إلى الحقّ- مراحل ودرجات، ولكلّ واحدة من هذه المراحل والدرجات أحكام خاصة بها، وفي ضوء هذه الحقيقة يتضح الحال بالنسبة لجميع الموارد التي استعملت فيها لفظة الكفر والإيمان في الكتاب العزيز. فإذا وجدنا القرآن يستعمل وصف الكفر في شأن آكل الربا (كما في الآية 275 من سورة البقرة) وكذا في شأن السحرة (كما في الآية 102 من نفس السورة) ويعبر عنهما بالكافر، كان المراد هو ما ذكرناه، أي أن الربا والسحر إبتعاد عن الحقّ في مرحلة العمل. وعلى كلّ حال فإنه يستفاد من هذه الآية أمران: الأوّل: الأهمية الفائقة لفريضة الحجّ، إلى درجة ان القرآن عبر عن تركها بالكفر. ويؤيد ذلك ما رواه الصدوق في كتاب "من لا يحضره الفقيه" من أن النبي(ص) قال لعلي (عليه السلام): "يا علي إن تارك الحجّ وهو مستطيع كافر يقول الله تبارك وتعالى: (ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين); يا علي; من سوف الحجّ حتّى يموت بعثه الله يوم القيامة يهودياً، أو نصرانياً"(10). الثاني: إن هذه الفريضة الإلهية المهمة- مثل بقية الفرائض والأحكام الدينية الأُخرى- شرعت لصلاح الناس، وفرضت لفرض تربيتهم، وإصلاح أمرهم وبالهم أنفسهم فلا يعود شيء منها إلى الله سبحانه أبداً، فهو الغني عنهم جميعاً. ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ لقهره لمن تعرض له بسوء ﴿مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي منها المقام لتأثير قدميه في الحجر ومنها الحجر الأسود ومنها منزل إسماعيل ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ في الآخرة من النار، أو أمر ليؤمن من دخله جانيا خارجه ولا يتعرض له ولكن يلجأ إلى الخروج ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ أي الحج والعمرة جميعا ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ بأن يكون صحيحا في بدنه مخلى في سربه له زاد وراحلة ﴿وَمَن كَفَرَ﴾ ترك وهو مستطيع ﴿فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ أكد أمر الحج بإيجابه بصيغة الخبر والجملة الإسمية وإيراده على وجه يفيد أنه حق لله في رقاب الناس وتخصيص الحكم بعد تعميمه وهو تكرير للمراد وبيان بعد إبهام وتغليظ تركه بتسميته كفرا كما سمي تاركه في الخبر يهوديا أو نصرانيا وذكر الاستغناء الدال على المقت والسخط وإبدال عن عنه بعن العالمين.