لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير الدعوة إلى الحقّ ومكافحة الفساد: بعد الآيات السابقة التي حثت على الأخوة والإتحاد جاءت الإشارة- في الآية الأُولى من الآيتينالحاضرتين- إلى مسألة "الأمر بالمعروف" و "النهي عن المنكر" اللذين هما- في الحقيقة- بمثابة غطاء وقائي إجتماعي لحماية الجماعة وصيانتها، إذ تقول (ولتكن منكم اُمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون). لأن فقدان "الأمر بالمعروف" و "النهي عن المنكر" يفسح المجال للعوامل المعادية للوحدة الإجتماعية بأن تنخرها من الداخل، وتأتي على كلّ جذورها كما تفعل الأرضة، وأن تمزق وحدة الأُمة وتفرق جمعها، ولهذا فلابدّ من مراقبة مستمرة ورعاية دائمة لهذه الوحدة، ولا يتم ذلك إلاَّ بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وهذه الآية تتضمن دستوراً أكيداً للأمة الإسلامية بأن تقوم بهاتين الفريضتين دائماً، وأن تكون أمة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر أبداً لأن فلاحها رهن بذلك: (وأولئك هم المفلحون). يبقى أن نعرف أن "الأُمة" مأخوذة لغة من "الأُم" وهو كلّ ما انضم إليه الأشياء الاُخرى، أو كلّ شيء ضم إليه سائر ما يليه، والأُمة كلّ جماعة يجمعهم أمر جامع إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد لهذا لا تطلق لفظة الأُمة على الأفراد المتفرقين، والأشخاص الذين لا يربطهم رباط واحد. سؤال وهنا يطرح سؤال وهو: أن الظاهر من جملة "منكم أمة" هو جماعة من المسلمين لا كافة المسلمين، وبهذا لا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً عامّاً، بل وظيفة دينية تختص بفريق من المسلمين، وإن كان إنتخاب هذا الفريق الخاصّ من مسؤولية المسلمين جميعاً. وبعبارة أُخرى أن جملة "منكم أمة" ظاهرة في أن هذين الأمرين، واجبان كفائيان لا عينيان. في حين أن آيات اُخرى تفيد بأنهما عامان غير خاصين بجماعة دون اُخرى، كما في آية لاحقة وهي قوله سبحانه (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر). أو ما جاء في سورة "العصر": (إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصبر) فإن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتواصي بالحقّ، والتواصي بالصبر في هذه الآيات وما شابهها عامة غير خاصّة. والجواب: إن الإمعان في مجموعة هذه الآيات يوضح لنا الجواب، فإنه يستفاد منها أن "الأمر بالمعروف" و "النهي عن المنكر" مرحلتين: "المرحلة الفردية" التي يجب على كلّ واحد القيام بها بمفرده، إذ يجب عليه أن يراقب تصرفات الآخرين، و"المرحلة الجماعية" وهي التي تعتبر من مسؤولية الأُمة بما هي أُمة، حيث يجب عليها أن تقوم بمعالجة كلّ الإعوجاجات والإنحرافات الإجتماعية، وتضع حدّاً لها، بالتعاون بين أفرادها وأعضائها كافة. ويعتبر القسم الأول من وظيفة الأفراد، فرداً فرداً، وحيث إن إمكانات الفرد وقدراته محدودة، ولذلك فإن إطار هذا القسم يتحدد بمقدار هذه الإمكانات. وأمّا القسم الثاني فإنه يعتبر واجباً كفائياً، وحيث إنه من واجب الأُمة بما هي أُمة فإن حدوده يتسع ولهذا يكون من واجبات الحكومة الإسلامية، وشؤونها بطبيعة الحال. إن وجود هذين النوعين من مكافحة الفساد، والدعوة إلى الحقّ يعتبران- بحقّ- من أهم التعاليم التي تتوج القوانين الإسلامية، كما ويكشف عن سياسة تقسيم الواجبات والوظائف وتوزيع الأدوار في الدولة الإسلامية، وعن لزوم تأسيس "فريق المراقبة" للنظارة على الأوضاع الإجتماعية والمؤسسات المختلفة في النظام الإسلامي. وقد جرت العادة فيما سبق بوجود أجهزة خاصّة تقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المستوى الإجتماعي في البلاد الإسلامية، وقد كانت تسمى هذه الأجهزة تارة باسم "دائرة الحسبة" ويسمى موظفوها بالمحتسبين، وتارة باسم الآمرين بالمعروف،. وقد كانت هذه الأجهزة بسبب موظفيها تقوم بمكافحة كلّ فساد في المجتمع، أو كل فساد وظلم في أجهزة الدولة، إلى جانب ما تقوم به من تشجيع الناس على الخير والحثّ على المعروف. ومع وجود مثل هذه الجماعة بما لها من القوة الواسعة لا يوجد أي تناف بين شمول فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليها وعلى الفرد بما له من القدرة المحدودة. إذ يكون الأمر والنهي الواسعان من واجب الدولة الإسلامية لا الفرد. وحيث إن هذا البحث يعتبر من أهم الأبحاث القرآنية وقد أشارت إليه آيات كثيرة فى الكتاب العزيز لذلك يلزم أن نذكر أُموراً في هذا المجال: 1- ما هو "المعروف" وما هو "المنكر"؟ "المعروف" هو كلّ ما يعرف وهو مشتق من عرف، و "المنكر" كلّ ما ينكر وهو مشتق من الإنكار، وبهذا النحو وصفت الأعمال الصالحة بأنها اُمور معروفة، والأعمال السيّئة والقبيحة اُمور منكرة، لأن الفطرة الإنسانية الطاهرة تعرف القسم الأول وتنكر القسم الثاني. 2- هل الأمر بالمعروف واجب عقلي أو تعبدي؟ يعتقد جماعة من علماء المسلمين أن وجوب هاتين الفريضتين لم يثبت إلاَّ بالدليل النقلي، وأن العقل لا يحكم بوجوب النهي عن منكر لا يتعدى ضرره إلى غير فاعله. ولكن نظراً إلى العلاقات الإجتماعية، وما للمنكر من الآثار السيئة التي لا تنحصر في نقطة وقوعها، بل تتعداها إلى العلاقات الإجتماعية إذ يمكن سراية شرارته إلى كلّ نواحي المجتمع تتضح الأهمية العقلية لهاتين الوظيفتين. وبعبارة أُخرى: ليس هناك في المجتمع ما يكون "ضرراً فردياً" ينحصر نطاقه على الفرد خاصة، بل كلّ ضرر فردي يمكن أن ينقلب إلى "ضرر إجتماعي" ولهذا يؤكد العقل والمنطق السليم لأفراد المجتمع بأن لا يألوا جهداً في الإبقاء على سلامة البيئة الإجتماعية وطهارتها من كلّ دنس. وقد أشير إلى هذا في بعض الأحاديث. فعن النبي (ص) أنه قال: "مثل القائم على حدود الله والمرهن فيها كمثل قوم استهمّوا على سفينة في البحر فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها... فقال الذين في أسفلها: إننا ننقبها من أسفلها فتستقى، فإن أخذوا على أيدهم فمنعوهم نجوا جميعاً، وإن تركوهم غرقوا جميعاً"(1). ولقد جسد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)- بهذا المثال الرائع- موضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنطقية هاتين الفريضتين بغض النظر عن أمر الشارع بهما،وبذلك قرر حقّ الفرد في النظارة على المجتمع على أساس أنه حقّ طبيعي ناشىء من اتحاد المصائر في المجتمع، وارتباط بعضها ببعض. 3- أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هناك علاوة على الآيات القرآنية الكثيرة، أحاديث مستفيضة في المصادر الإسلامية المعتبرة تتحدث عن أهمية هاتين الفريضتين الإجتماعيتين الكبيرتين، قد أُشير فيها إلى العواقب الخطيرة المترتبة على تجاهل وترك هاتين الوظيفتين في المجتمع، نذكر من باب المثال طائفة منها: 1- عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب، وترد المظالم، وتعمر الأرض وينتضف من الأعداء، ويستقيم الأمر"(2). 2- قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): "من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفه الله في أرضه، وخليفة رسول الله وخليفة كتابه"(3). 3- جاء رجل إلى النبي (ص) وهو على المنبر فقال: يا رسول الله من خير الناس؟ قال: "آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأرضاهم"(4). 4- في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "لتأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم سلطاناً ظالماً لا يجل كبيركم ولا يرحم صغيركم، وتدعو خياركم فلا يستجاب لهم، وتستنصرون فلا تنصرون، وتستغيثون فلا تغاثون، وتستغفرون فلا تغفرون"(5). هذه الأُمور كلّها هي الآثار الطبيعية لموقف المجتمع الذي يعطل هاتين الوظيفتين الإجتماعيتين العظيمتين، لأن ترك النظارة العامّة على ما يجري في المجتمع يلازم خروج الأُمور من قبضة الصالحين، والإفساح للأشرار بأن يتسلموا أزمة الأُمور ومقدرات المجتمع ويحكموا فيه بأهوائهم، فيقع ما يقع من المآسي وتصاب الجماعة بما ذكره الحديث المتقدم من التبعات والمفاسد. وما ذكر في الحديث من عدم قبول توبتهم أيضاً لأنة لا معنى لقبول التوبة مع استمرارهم على السكوت اللهم إلاَّ أن يعيدوا النظر في سلوكهم. 5- عن علي (عليه السلام): "وما أعمال البر كلّها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلاَّ كنفثة في بحر لجىء"(6). كل هذه التأكيدات هي لكون هاتين الوظيفتين العظيمتين خير ضمان لإجراء وتنفيذ بقية الوظائف الفردية والإجتماعية، ولأنهما بمثابة الروح لها، فبتركهما تندرس كلّ الأحكام والقيم الأخلاقية وتفقد قيمتها وتختفي من حياة المجتمع. 4- هل الأمر بالمعروف يوجب سلب الحريات؟ في الإجابة على هذا السؤال لابدّ من القول بأن النمط الجماعي للحياة وإن كان- بلا ريب- ينطوي على فوائد كثيرة لأفراد البشر، بل إن هذه المزايا هي التي دفعت الإنسان ليختار الحياة الإجتماعية، إلاَّ أنه ينطوي في مقابل ذلك على بعض التقييدات لحريات الأفراد، ولكن بما أن ضرر هذه التقييدات الجزئية ضئيل تجاه الفوائد الجمة التي تنطوي عليها الحياة الإجتماعية إختار الإنسان النمط الإجتماعي منذ الأيّام الأُولى من حياته على هذا الكوكب متحملاً كلّ التقييدات. وحيث إن مصائر الأفراد ترتبط ببعضها في الحياة الإجتماعية، ويؤثر بعضها في بعض بمعنى أن الجميع في الحياة الإجتماعية يشتركون في مصير واحد، لذلك كان حقّ النظارة على تصرفات الآخرين وسلوكهم حقّاً طبيعياً تقتضيه الحياة الجماعية، كما جاء ذلك في الحديث الرائع الذي نقلناه آنفاً عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)في هذا المجال. وعلى هذا فإن الأمر بالمعروف لا ينافي الحريات الفردية فحسب، بل هو وظيفة كلّ فرد تجاه الفرد الآخر، لأن من شأنه الإبقاء على سلامة الآخرين واستقامةأُمورهم، ومن ثمّ سلامة الفرد نفسه واستقامة أمره. 5- ألا يلازم الأمر بالمعروف الفوضى الإجتماعية؟ هناك سؤال آخر يطرح نفسه في هذا المجال وهو إذا سمحنا للناس بأن يتدخلوا في شؤون الآخرين وتكون لهم النظارة على أعمالهم وتصرفاتهم، فإن ذلك يوجب وقوع الفوضى في المجتمع، إذ تحصل بسببه المصادمات بين الأفراد، ولأنه يخالف مبدأ توزيع الواجبات والمسؤوليات في الحياة الإجتماعية فما هو الجواب؟ في الإجابة على هذا السؤال لابدّ من القول: بأن الأبحاث السابقة قد أوضحت أن لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرحلتين: المرحلة الأُولى: وهي المرحلة العمومية، وهي ذات إطار محدود لا يتجاوز التذكير، والعظة، والإعتراض، والنقد وما شابه ذلك، ولا شكّ أن المجتمع إذا أراد أن يكون حيّاً لابدّ أن يشعر أفراده جميعاً بمثل هذه المسؤولية تجاه المفاسد، وبمثل هذا الشعور تجاه المنكرات. وأمّا المرحلة الثانية التي تختص بجماعة معيّنة وخاصة، وتكون من شؤون الحكومة الإسلامية فهي أوسع إطاراً، وأكبر مسؤولية، وأكثر قوة، بمعنى أن الأمر إذا تطلب استخدام القوة، وحتى إجراء القصاص وإجراء الحدود كان من صلاحيات هذه الجماعة أن تقوم به تحت نظر الحاكم الشرعي، ومسؤولي الحكومة الإسلامية، وهذا القسم هو الذي يقع بسببه الهرج والمرج لو أنيط إلى كلّ من هب ودب، دون القسم الأول الذي لا يتجاوز النصح والتذكير، والإعتراض والإعراض. إذن فبملاحظة المراحل المختلفة في هذه الوظيفة الدينية، وما لكلّ واحدة منها من الحدود والأبعاد، فإن القيام بهذه الوظيفة لا يستوجب الهرج والمرج في المجتمع، بل يخرج المجتمع من صورة الجماعة الميتة الخامدة، إلى صورةالمجتمع الحي النابض، والجماعة المتحركة الصاعدة. 6- الأمر بالمعروف غير العنف في ختام هذا البحث لابدّ من التذكير بهذه الحقيقة وهي أنّه لابدّ في القيام بهذه الفريضة الإلهية السامية والدعوة إلى الحقّ ومكافحة الفساد من حسن النية، وسلامة الهدف، والشعور بالمسؤولية، كما يجب أن يتم بالطرق السلمية، ومن هنا لا يمكن إعتباره عملاً خشناً ملازماً للعنف إلاَّ في بعض الموارد الضرورية. بيد أن البعض- مع الأسف- يستخدم العنف والخشونة لدى القيام بهذا الواجب المقدس في غير الموارد الضرورية التي تستدعي مثل ذلك، وربما توسل بالسب والشتم، ولهذا نرى أن مثل هذه الممارسات لا تترك أثراً ايجابياً، بل تعطي في الأغلب نتائجها العكسية، وثمارها السلبية، في حين ترينا سيرة الرسول الأكرم(ص) والأئمة الهداة من أهل بيته (عليهم السلام) غير ذلك، فهم كانوا يستعملون- في هذه الوظيفة المقدسة- منتهى اللطف والمحبة، وغاية الأدب والإتزان، ولهذا كانوا يؤثرون غاية التأثير، ويتركون أفضل النتائج حتّى أنهم كانوا يطوعون بذلك النهج أعتى الأفراد، وأكثرهم عناداً وجفافاً -. جاء في تفسير "المنار" في معرض الحديث عن هذه الآية: أن غلاماً شاباً أتى النبي (ص) فقال: أتأذن لي في الزنا؟ فصاح الناس به فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قربوه ادن، فدنا حتّى جلس بين يديه فقال النبي (ص) أتحبّه لأُمّك؟ قال لا، جعلني الله فداءك. قال: كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لأبنتك؟ قال: لا، جعلني الله فداءك. قال: كذلك لايحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟ قال: لا، جعلني الله فداءك. فوضع رسول الله (ص) يده- على صدره وقال: "اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحصن فرجه". فلم يكن شيء أبغض إليه من الزنا(7). وكان هذا هو الأثر الطبيعي للأُسلوب اللين في النهي عن المنكر. الفرقة بعد الإتحاد من شيم النصارى واليهود: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ﴾ بعضكم وهو خاص غير عام يدل على أنهما كفائيان ﴿أُمَّةٌ﴾ وقرىء أئمة ﴿يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ روي: أنما يجب على القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الأحقاء بالفلاح.