تحريم الرّبا في مراحل:
كلنا يعرف أن أُسلوب القرآن في مكافحة الإنحرافات الإجتماعية المتجذرة في حياة الناس يعتمد معالجة الأُمور خطوة فخطوة، فهو أولاً يهيىء الأرضية المناسبة، ويُطلع الرأي العام على مفاسد ما يطلب محاربته ومكافحته، ثمّ بعد أن تتهيأ النفوس لتقبل التحريم النهائي يعلن عن التحريم في صيغته القانونية النهائية (ويتبع هذا الأُسلوب خاصة إذا كان ذلك الأمر الفاسد ممّا استشرى في المجتمع، وكانت رقعة إنتشاره واسعة).
كما أننا نعلم أيضاً أن المجتمع العربي في العهد الجاهلي كان مصاباً- بشدة- بداء الربا، حيث كانت الساحة العربية (وخاصة مكة) مسرحاً للمرابين.
و قد كان هذا الأمر مبعثاً للكثير من المآسي الإجتماعية، ولهذا استخدم القرآن في تحريم هذه الفعلة النكراء أُسلوب المراحل، فحرم الربا في مراحل أربع:
1- يكتفي في الآية 39 من سورة الروم بتوجيه نصح أخلاقي حول الربا إذ قال سبحانه وتعالى: (وما أتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما أتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأُولئك هم المضعِفون).
بهذا يكشف عن خطأ الذين يتصورون أن الربا يزيد من ثروتهم، في حين أن إعطاء الزكاة والإنفاق في سبيل الله هو الذي يضاعف الثروة.
2- يشير- ضمن إنتقاد عادات اليهود وتقاليدهم الخاطئة الفاسدة- إلى الربا كعادة سيئة من تلك العادات، إذ يقول في الآية 161 من سورة النساء: (وأخذهم الربا وقد نهوا عنه).
3- يذكر في الآية الحاضرة- كما سيأتي تفسيرها المفصل- حكم التحريم بصراحة، ولكنه يشير إلى نوع واحد من أنواع الربا، وهو النوع الشديد والفاحش منه فقط.
4- وأخيراً أعلن في الآيات 275 إلى 279 من سورة البقرة عن المنع الشامل والشديد عن جميع أنواع الربا، وإعتباره بمنزلة إعلان الحرب على الله سبحانه.
التحريم في الآية الحاضرة:
قلنا إن الآية الحاضرة إشارة إلى الربا الفاحش معبرة عن ذلك بقوله (اضعافاً مضاعفة).
والمراد من "الربا الفاحش" هو أن تكون الزيادة الربوية تصاعدية، بمعنى أن تُضم الزيادة المفروضة أولاً على رأس المال ثمّ يصبح المجموع مورداً للربا، بمعنى أن الزيادة ثانياً تقاس بمجموع المبلغ (الذي هو عبارة عن رأس المال والزيادة المفروضة في المرة الأُولى) ثمّ تضم الزيادة المفروضة ثانياً إلى ذلك المبلغ، وتفرض زيادة ثالثة بالنسبة إلى المجموع(1).
وهكذا يصبح مجموع رأس المال والزيادة في كلّ مرّة رأس مال جديد تضاف عليه زيادة جديدة بالنسبة، وبهذا يبلغ الدين أضعاف المبلغ الأصلي المدفوع إلى المديون حتّى يستغرق كلّ ماله.
ولهذا قال القرآن الكريم: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة).
ويستفاد من الأخبار والروايات أن الرجل- في الجاهلية- إذا كان يتخلف عن أداء دينه عند الموعد المقرر طلب من الدائن أن يضيف الزيادة على المبلغ ثمّ يؤخره إلى أجل آخر، وهكذا حتّى يستغرق بالشيء الطفيف مال المديون.
وهذا هو السائد بعينه في عصرنا الحاضر ويفعله المرابون الكبار دون رحمة.
ولاشكّ أن مثل هذا الفعل يدر على أصحاب الأموال مبالغ ضخمة دون عناء، فلا يمكن الإرتداع عنه الإّ بتقوى الله، ولهذا عقب سبحانه نهيه عن مثل هذا الربا الظالم بقوله: (واتقوا الله لعلكم تفلحون).
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً﴾ لا تأخذوا زيادة مكررة ولعل التقييد بحسب ما وقع إذ كان الرجل يربي إلى أجل ثم يزيد فيه زيادة أخرى وهكذا وقرىء مضعفة ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ﴾ في مناهيه ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ راجين الفلاح.