(والذين إذا فعلوا فاحشة، أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم).
و"الفاحشة" مشتقة أصلاً من الفحش، وهو كلّ ما اشتد قبحه من الذنوب، ولا يختص بالزنا خاصة، لأن الفحش- في الأصل- يعني "تجاوز الحدّ" الذي يشمل كلّ ذنب.
هذا وفي الآية أعلاه إشارة إلى إحدى صفات المتقين، فالمتقون مضافاً إلى الإتصاف بما ذكر من الصفات الإيجابية، إذا اقترفوا ذنباً، (ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلاّ الله، ولم يصروا على ما فعلوا).
يستفاد من هذه الآية أن الإنسان لا يذنب مادام يتذكر الله، فهو إنما يذنب إذا نسي الله تماماً واعترته الغفلة، ولكن لا يلبث هذا النسيان وهذه الغفلة- لدى المتقين- حتّى تزول عنهم سريعاً ويذكرون الله، فيتداركون ما فات منهم، ويصلحون ما أفسدوه.
إن المتقين يحسون إحساساً عميقاً بأنه لا ملجأ لهم إلاّ الله، فلابدّ أن يطلبوا منه المغفرة لذنوبهم دون سواه (ومن يغفر الذنوب إلاّ الله).
وينبغي أن نعلم أن القرآن ذكر مضافاً إلى "الفاحشة" "ظلم النفس" (أو ظلموا أنفسهم) ويمكن أن يكون الفرق بين هذين هو أن الفاحشة إشارة إلى الذنوب الكبيرة، و "ظلم النفس" إشارة إلى الذنوب الصغيرة.
ثمّ إنه سبحانه تأكيداً لهذه الصفة قال:(ولميصروا على ما فعلوا وهم يعلمون).
وقد نقل عن إلامام الباقر (عليه السلام) أنه قال: "الإصرار: أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله، ولا يحدث نفسه بتوبة، فذلك الإصرار"(4).
وفي أمالي الصدوق بإسناده إلى الإمام الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام) قال: "لما نزلت هذه الآية (وإذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم) صعد إبليس جبلاً بمكة يقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته، فاجتمعوا إليه فقالوا يا سيدنا لم دعوتنا؟
قال: نزلت هذه الآية فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين.
فقال: أنا لها بكذا وكذا.
قال: لست لها فقام آخر فقال مثل ذلك.
فقال: لست لها.
فقال: الوسواس الخناس أنا لها.
قال: بماذا؟ قال: أعدهم وامنيهم حتّى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الإستغفار.
فقال: أنت لها، فوكله بها إلى يوم القيامة"(5).
ومن الواضح أن النسيان ناشىء من التساهل، والوساوس الشيطانية، وإنما يبتلى بها من سلم نفسه لها، وخضع لتأثيرها، وتعاون مع الوسواس الخناس واستجاب له.
ولكن اليقظين المؤمنين تجدهم في أعلى درجة من مراقبة النفس، فكلّما صدرت منهم خطيئة أو بدر ذنب، بادروا- في أقرب فرصة- إلى غسل ما ران على قلوبهم ونفوسهم من درن المعصية، وأغلقوا منافذ أفئدتهم على جنود الشيطان الذين لا يستطيعون النفوذ إلى القلوب من الأبواب المؤصدة.
هذه هي أبرز صفات المتقين وأقوى المعالم في سلوكهم وخلقهم، قد تعرضت لذكرها الآيات السابقة.
والآن جاء الدور ليذكر القرآن الكريم ما ينتظر هذا الفريق من الثواب والجزاء اللائق.
﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً﴾ سيئة بالغة في القبح بتعدي أثرها ﴿أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ﴾ بارتكاب ذنب لا يتعدى ﴿ذَكَرُواْ اللّهَ﴾ تذكروا وعيده وعظمته ﴿فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ﴾ استفهام معناه النفي معترض لبيان سعة رحمته ومغفرته وحث على التوبة وتقوية للرجاء ﴿وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ﴾ لم يقيموا على الذنب ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أي لم يصروا على القبيح عالمين به.