الحوادث المرة ميدان تربية:
أجل، إن لمعركة "أُحد" وما لحق بالمسلمين فيها من هزيمة نتائج وآثاراً، ومن نتائجها وآثارها الطبيعية أنها كشفت عن نقاط الضعف في الجماعة والثغرات الموجودة في كيانها، وهي وسيلة فعالة ومفيدة لغسل تلك العيوب والتخلّص من تلك النواقص والثغرات، ولهذا قال سبحانه: (وليمحص(2) الله الذين آمنوا) أي أن الله أراد- في هذه الواقعة- أن يتخلص المؤمنون من العيوب ويريهم ما هم مبتلون به من نقاط الضعف.
إذ يجب لتحقيق الإنتصارات في المستقبل أن يمتحنوا في بوتقة الإختبار، ويزنوا فيها أنفسهم كما- قال الإمام علي (عليه السلام): "في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال".
ولهذا قد يكون لبعض الهزائم والنكسات من الأثر في صياغة المجتمعات الإنسانية وتربيتها ما يفوق أثر الإنتصارات الظاهرية.
والجدير بالذكر أن مؤلف تفسير المنار نقل عن اُستاذه مفتي مصر الأكبر الشيخ محمد عبده أنه رأى النبي (ص) في المنام فقال له: "رأيت النبي (ص) ليلة الخميس الماضية (غرة ذي القعدة سنة 1320) في الرؤيا منصرفاً مع أصحابه من أُحد وهو يقول: "لو خيّرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة" أي لما في الهزيمة من التأديب الإلهي للمؤمنين وتعليمهم أن يأخذوا بالإحتياط ولا يغتروا بشيء يشغلهم عن الإستعداد وتسديد النظر(3).
وأما نتيجة هذه التربية والصياغة التي يتلقاها المؤمنون فى خضم المحن والمصائب واتون الحوادث المرة فهو حصول القدرة الكافية لدحر الشرك والكفر دحراً ساحقاً وكاملاً.
وإلى هذا أشار بقوله: (وليمحق(4) الكافرين).
فإن المؤمنين بعد أن تخلصوا- في دوامة الحوادث- من الشوائب يحصلون على القدرة الكافية للقضاء التدريجي على الشرك والكفر، وتطهير مجتمعهم من هذه الأقذار والشوائب، وهذا يعني أنه لابدّ أولاً من تطهير النفس ثمّ تطهير الغير.
أي التطهر ثمّ التطهير.
وفي الحقيقة كما أن القمر- مع ما هو عليه من النور والبهاء الخاصين به- يفقد نوره شيئاً فشيئاً أمام وهج الشمس وبياض النهار حتّى يغيب في ظلمة المحاق فلا يعود يرى إلاّ عندما تنسحب الشمس من الأُفق، كذلك يأفل نجم الشرك وأهله وتتضاءل قوة الكفر وأشياعه كلّما ازداد صفاء المسلمين المؤمنين، وخلصوا من رواسب الضعف والإعوجاج والإنحراف.
فهناك علاقة متقابلة بين تمحيص المؤمنين وإرتقائهم في مدارج الخلوص والطهر، ومراتب الصفاء والتقوى، وبين إنزياح الكفر والشرك وإندثار معالمها وآثارهما عن ساحة الحياة الإجتماعية.
هذه هي الحقيقة الكبرى والخالدة التي يلخصها القرآن في هاتين الجملتين اللتين تشكل الأُولى منها المقدمة والثانية النتيجة.
﴿وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ يخلصهم من ذنوبهم إن كانت الدولة عليهم ﴿وَيَمْحَقَ﴾ يهلك ﴿الْكَافِرِينَ﴾.