لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
سبب النّزول إن الآية الأُولى من هاتين الآيتين ناظرة أيضاً إلى حادثة أُخرى من حوادث معركة "أُحد" وهي الصيحة التي ارتفعت فجأة في ذروة القتال بين المسلمين والوثنيين أن محمّداً قد قتل. ولقد قارنت هذه الصيحة نفس اللحظة التي رمى فيها "عمرو بن قمئة الحارثي" النبي (ص) بحجر فكسر به رباعيته وشجه في وجهه، فسأل الدم، وغطى وجهه الشريف(1) فقد كان العدو يريد في هذه اللحظة أن يقضي على رسول الله، ولكن "مصعب بن عمير" وهو من حملة الرايات في الجيش الإسلامي ذب عنه حتّى قتل دون النبي، فتوهم العدو أن النبي قد قتل، ولهذا صاح: إلاَّ أن محمّداً قد قتل، ليخبر الناس بذلك الأمر. وقد كان لإنتشار هذا الخبر أثره الإيجابي فى معنويات الوثنيين بقدر ما ترك من الأثر السيء في نفوس المسلمين حيث تزعزعت روحيتهم وزلزلوا زلزالاً شديداً، فاضطرب جمع كبير منهم كانوا يشكلون أغلبية الجيش الإسلامي، وأسرعوا في الخروج من ميدان القتال، بل وفكر بعضهم أن يرتد عن الإسلام بمقتل النبي ويطلب الأمان من أقطاب المشركين، بينما كان هناك أقلية من المسلمين مثل الإمام علي (عليه السلام) وأبو دجانة وطلحة وآخرون، يصرون على الثبات والمقاومة ويدعون الناس إليه. فقد جاء أنس بن النضر إلى ذلك الفريق الذي كان يفكر في الفرار وقال لهم: "يا قوم إن كان قد قتل محمّد فربّ محمّد لم يقتل فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وموتوا على ما مات عليه" ثمّ شد بسيفه وحمل على الكفّار وقاتل حتّى قتل، ثمّ لم يمض وقت طويل حتّى تبين أن النبي (ص) على قيد الحياة، وتبين على أثره خطأ ذلك الخبر أو كذبه، فنزلت الآية الأُولى- من الآيتين الحاضرتين- توبخ الذين لاذوا بالفرار بشدة. التّفسير لا لعبادة الشخصية وتقديس الفرد: تعلّم الآية الأُولى من هاتين الآيتين حقيقة أُخرى للمسلمين استلهاماً من أحداث معركة "أُحد" إذ تقول: (وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) وهذه الحقيقة هي أن الإسلام ليس دين عبادة الشخصية حتّى إذا قتل النبي (ص) ونال الشهادة في هذه المعركة- افتراضاً- ينتهي كلّ شيء ويسقط واجب الجهاد والنضال عن كاهل المسلمين، بل إن هذا الواجب مستمر، وعليهم أن يواصلوه لأن الإسلام لا ينتهي بموت النبي أو استشهاده، وهو الدين الحقّ الذي أنزل ليبقى خالداً إلى الأبد. إن عبادة الشخصية وتقديس الفرد من أخطر ما يصيب أية حركة جهادية ويهددها بالسقوط والإنتهاء، فإن إرتباط الحركة أو الدين بشخص معين حتّى لو كان ذلك هو النبي الخاتم (ص) معناه توقف كلّ الفعاليات وكلّ تقدّم بفقدانه وغيابه عن الساحة، وهذا النوع من الإرتباط هو أحد علائم النقص في الرشد الإجتماعي. إنّ تركيز النبي وإصراره على مكافحة تقديس الفرد وعبادة الشخصية آية اُخرى من آيات صدقه، ودليلاً آخر يدل على حقانيته، لأن قيامه ودعوته لو كان لنفسه وبهدف تحقيق مصالحه الشخصية للزم أن يعمق في الأذهان والقلوب هذه الفكرة، ويزيد من توجيه الأنظار إلى نفسه وأن جميع الأشياء في هذا الدين مرتبطة بشخصه بحيث إذا غاب عنهم ذهب وانتهى كلّ شيء، ولكن القادة الصادقين كالنبي الأكرم (ص) لا يفعلون مثل هذا أبداً، ولا يشجعون على مثل هذه الأفكار، بل يكافحونها بقوة، ويقولون: إن أهدافنا أعلى من أشخاصنا وهي لا تنتهي بموتنا وبغيابنا، ولهذا يقول القرآن الكريم: (وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم)؟ وهو بذلك يستنكر ما دار في خلد البعض أو قد يدور من أن كلّ شيء في هذا الدين ينتهي بغياب النبي ـالقائدـ(صلى الله عليه وآله وسلم). والجدير بالذكر أن القرآن استخدم للتعبير عن الردة إلى الجاهلية كلمة (انقلبتم على أعقابكم) و "الأعقاب" جمع عقب (وزان خشن) بمعنى مؤخرة القدم، فهو تعبير موح يصور التراجع إلى الوراء والإرتداد الواقعي، وهو أكثر إيحاءاً وأقوى تصويراً من لفظة الردة والرجوع والعودة، لأنه بمعنى السير القهقري. ثمّ إنه سبحانه يقول: (ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً) يعني أن العودة إلى الكفر والوثنية تضرّكم أنتم دون الله سبحانه، لأن أمثال هذا التراجع لا يعني سوى توقفكم في طريق الخير والسعي نحو السعادة الكاملة، بل فقدان كلّ ما حصلتموه من العزّة والكرامة والمجد بسرعة. ثمّ إنه لما كان هناك- في معركة أُحد- أقلية استمرت على جهادها رغم الصعوبات، وإنتشار الخبر المفجع عن مقتل الرسول، كان من الطبيعي أن ينال صمودهم هذا وثباتهم التقدير اللائق، ولهذا قال سبحانه: (وسيجزي الله الشاكرين) وبذلك مدح القرآن الكريم استقامتهم وصمودهم، ووصفهم بالشاكرين لأنهم أحسنوا الإستفادة والإنتفاع بالنعم في سبيل الله، وهذا أفضل مصاديق الشكر. إن الدرس الذي تعطيه هذه الآية في مكافحة عبادة الشخصية وتقديس الفرد هو أبلغ وأفضل درس لجميع المسلمين في جميع العصور والأزمنة، فعليهم جميعاً أن يتعلموا من القرآن أن لا يربطوا القضايا الإستراتيجية والأهداف العليا والمصيرية بالأشخاص، بل لابدّ أن يلتفوا حول الأُسس والمباديء الخالدة التي لا تفنى ولا تتغير، ولا تتأثر بتغير الأشخاص أو غيابهم عن الساحة بسبب الموت أو القتل حتّى لو كان ذلك هو النبيّ الأكرم، لكيلا تتوقف عجلة المسيرة عن الحركة، ولا يتعطل دولاب العمل عن الدوران، بل إن ذلك هو رمز الخلود في أي مبدأ وحركة أساساً. وعلى هذا الأساس فإن جميع البرامج والتشكيلات المرتبطة بالأشخاص والقائمة بوجودهم الشخصي هي في الحقيقة برامج وتشكيلات غير سليمة ولا طبيعية، وهي معرضة للزوال والفناء في أية لحظة. وممّا يؤسف له أن يكون أغلب التشكيلات الإسلامية اليوم من هذا القبيل، أي أنها قائمة بالأشخاص، ولذلك فهي سرعان ما تزول وتتهاوى وتتلاشى عندما يغيب الأشخاص بذواتهم عن الساحة. إن على المسلمين أن يستلهموا من هذه الآية فيقيموا مؤسساتهم المتنوعة المختلفة بنحو يستفاد فيها من مواهب الأشخاص اللائقين الموهوبين دون أن يكون مصيرها مرتبطاً بمصيرهم حتّى لا تندثر بتغيرهم أو غيابهم. ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ فسيخلو كما خلوا ﴿أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ إنكار لانقلابهم عن دينهم لخلوه بموت أو قتل مع علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم، روي أن إبليس نادى فيهم: أنه قد قتل فانهزموا وارتدوا عن الدين ﴿وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ﴾ يرتد ﴿فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا﴾ بل يضر نفسه ﴿وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ نعمة الإسلام بثباتهم عليه.