التّفسير
الشّرك ذنب لا يغتفر:
تشير هذه الآية مرة أُخرى إِلى خطورة جريمة الشرك الذي يعتبر ذنباً لا يغتفر ولا يتصور وجود ذنب أعظم منه، ويأتي هذا البحث بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن المنافقين والمرتدين الذين ينساقون بعد إِسلامهم إِلى الكفر.
ولقد مرّ ما يشابه مضمون هذه الآية، في نفس سورة النساء في الآية (48) وما إِعادة تكرار مثل هذه المسائل التربوية إِلا دليل على بلاغة القرآن، لأنّ المسائل الأساسية تستلزم التكرار في فواصل مختلفة بغية ترسيخها في الأذهان والنفوس.
والحقيقة أنّ الذنوب تشبه سائر الأمراض، فما دام المرض لم يهاجم موقعاً مهماً في جسم الإِنسان ولم يشل أحد هذه المواقع، كانت القدرة الدفاعية للجسم تحمل معها الشفاء والتحسن، ولكن لو هاجم المرض مركزاً حساساً في جسم يالإِنسان - مثل الدماغ - وأوجد نتيجة لذلك شل في الجسم، فإِنّ أبواب الأمل بالشفاء والتحسن قد تغلق في مثل هذه الحالة التي تنذر بقدوم الموت المحتم.
والشرك كهذا المرض الأخير يشل مركزاً حساساً في روح الإِنسان، وينشر الظلمة في نفسه، وإِذا استمر الشرك فلا أمل يرتجى في نجاة الإِنسان، بينما لو بقيت حقيقة التوحيد وعبادة الواحد الأحد التي هي ينبوع كل فضيلة وحركة... لو بقيت هذه الحقيقة حية فلا يعدم الإِنسان الآمل في غفران ذنوبه الأُخرى، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة: (إِنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفرما دون ذلك لمن يشاء).
وقد قلنا: بأنّ هذه الآية قد تكررت مرّتين في هذه السورة، وما ذلك إِلاّ لتزيل آثار الشرك والوثنية - وإِلى الأبد - من نفوس اُولئك الناس الذين ظل الشرك يعشش في أعماق نفوسهم لآماد طويلة، ولتظهر آثار التوحيد المعنوية والمادية على وجوه هؤلاء.
ولكن تتمة الآيتين تختلف في إِحداهما عن الأخرى اختلافاً طفيفاً، حيث تقول الآية الأخيرة: (يومن يشرك بالله فقد ضل ضلا بعيداً) بينما الآية السابقة تقول: (ومن يشرك بالله فقد افترى إِثماً عظيماً).
وفي الحقيقة فإِنّ الآية السابقة تشير إِلى الفساد العظيم الذي ينطوي عليه الشرك فيما يخص الجانب الإِلهي، ومعرفة الله، أمّا الآية الأخيرة فقد بيّنت الأضرار التي يلحقها الشرك بنفس الإِنسان والتي لا يمكن تلافيها، فهناك تبحث الآية في الجانب العلمي من القضية، وهنا تتناول الآية الأخيرة الجانب العملي منها ونتائجها الخارجية.
ويتّضح من هذا أنّ الآيتين تعتبر اُحداهما بالنسبة للأخرى بمثابة اللازم والملزوم بحسب الإِصطلاح (وقد اشتمل الجزء الثّالث من نفس هذا التّفسير على توضيحات أكثر حول هذه الآية).
﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ كرر تأكيدا أو لقصة أبي طعمة ﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾ عن الحق.