سبب النزول
لقد ورد في الكثير من كتب التّفسير والحديث، في سبب نزول هذه الآية، أنّه كان في زمن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شخص يدعى "رافع بن خديج" وكانت له زوجتان، إِحداهما كبيرة السن عجوز، والأُخرى شابة، فطلق "رافع" زوجته العجوز (اثر خلافات بينهما) لكنه - قبل أي تنتهي عدّتها - عرض عليها الصلح مشترطاً عليها أن لا تضجر إِذا قدم عليها زوجته الشابة، أو أن تصبر حتى تنتهي عدتها فيتم الفصل والفراق بينهما، فقلبت زوجته العجوز الشرط أو الإِقتراح الأوّل، فاصطلحا، فنزلت هذه الآية الكريمة مبيّنة حكم هذا العمل.
التّفسير
الصّلح خير:
لقد قلنا سابقاً - في هامش الآيتين (34 و35) من نفس سورة النساء - إِنّ كلمة "نشوز"
مشتقة من المصدر "نشز" بمعنى "الأرض المرتفعة" وحين تستخدم هذه العبارة في شأن الرجل والمرأة تعني ذلك "التكبر" و"الطغيان".
وقد بيّنت الآيات السابقة حكم نشوز المرأة، وفي هذه الآية إِشارة لنشوز الرجل فالآية تتحدث عن المرأة إِذا أحست من زوجها التكبر والإِعراض عنها، وتبيّن أن لا مانع من أن تتنازل عن بعض حقوقها، وتتصالح مع زوجها، من أجل حماية العلاقة الزوجية من التصدع، فتقول: (وإِن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إِعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً).
ولمّا كانت المرأة تتنازل عن بعض حقوقها طوعاً وعن طيب خاطر ومن غير إِكراه فلا ذنب في هذا العمل، حيث عبّرت الآية عن ذلك بعبارة "فلا جناح" أي لا ذنب، للدلالة على الحقيقة المذكورة.
وعند النظر إِلى سبب نزول الآية، نستخلص منها مسألتين فقهيتين:
الأُولى: إِنّ حكماً مثل تقسيم أيّام الأُسبوع بين الزوجات، له طابع الحق أكثر من طابع الحكم، ولذلك فبإِمكان المرأة التخلي عن هذا الحق بشكل تام إِذا شاءت أو بصورة جزيئة.
والمسألة الثّانية: إِنّ التراضي والتصالح لا يشترط أن يكون بالمال، بل يصح أن يكون بالتنازل عن حق من الحقوق.
بعد ذلك تؤكد الآية على أنّ الصلح خير وأحسن، حيث تقول: (والصلح خير) وهذه الجملة الصغيرة مع أنّها جاءت في مجال الخلافات العائلية، لكنها يتبيّن قانوناً كلياً عاماً شام، وتؤكد أنّ الصلح هو المبدأ الأوّل في كل المجالات، وأنّ الخلاف والنزاع والصراع والفراق ليس له وجود في الطبع والفطرة الإِنسانية السليمة، ولذلك فلا تسوغ هذه الفطرة التوسل بالنزاع وما يجري مجراه إِلاّ في الحالات الإِستثنائية الطارئة.
وهذا الأمر على عكس ما يصوّره الماديون من أنّ الصراع من أجل البقاء هو الأصل في حياة الموجودات الحيّة، ويزعمون أن التكامل يحصل من خلال هذا الصراع.
وقد كان هذا النوع من التفكير سبباً في بروز الكثير من النزاعات الدّموية والحروب في القرون الأخيرة، لكن الإِنسان لا يقاس بالحيوانات الأُخرى المفترسة بسبب ما يملكه من عقل وإِحساس، وإِنّ تكامله يتمّ في ظل التعاون وليس في ظل النزاع، ومن حيث المبدأ فإِن الصراع من أجل البقاء حتى في يالحيوانات لا يعتبر مبدأ مقبو للتكامل(1).
وتشير الآية بعد ذلك مباشرة إِلى أنّ الإِنسان بسبب غريزة حبّ الذات التي يمتلكها تحيط به أمواج البخل، بحيث أنّ كل إِنسان يسعى إِلى نيل حقوقه دون التنازل عن أقل شيء منها، وهذا هو سبب ومنبع النزاع والصراع، تقول الآية: (وأحضرت الأنفس الشح).
ولذلك فلو أحسّ كلّ من الزوجين بأنّ البخل هو منبع الكثير من الخلاف وأدركوا حقيقة البخل وأنّه من الصفات القبيحة، وسعوا لإِصلاح ذات بينهم وأبدوا العفو والصفح، فسوف لا يؤدي هذا إِلى زوال الخلاف والنزاع العائلي فحسب، بل سيؤدي أيضاً إِلى إِنهاء الكثير من الصراعات الإِجتماعية.
ولكي لا يسيء الرجال استغلال هذا الحكم الوارد في الآية، وجه الخطاب إِليهم في نهايتها ودعوا إِلى فعل الخير والتزام التقوى، ونبهوا إِلى أنّ الله يراقب أعمالهم دائماً فليحذروا الإِنحراف عن جادة الحق والصواب، تقول الآية في هذا المجال: (وإِن تحسنوا وتتقوا فإِن الله كان بما تعملون خبيراً).
﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ﴾ فاعل فعل يفسره ﴿خَافَتْ﴾ علمت أو توقعت ﴿مِن بَعْلِهَا﴾ لأمارات ظهرت لها ﴿نُشُوزًا﴾ ترفعا عنها بمنع حقوقها كراهة لها ﴿أَوْ إِعْرَاضًا﴾ بتقليل محادثتها ومؤانستها ﴿فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا﴾ يتصالحا ﴿بَيْنَهُمَا صُلْحًا﴾ بأن تهب له بعض القسم أو المهر أو غيره فتستعطفه به ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ من الفرقة أو النشوز أو الإعراض أو من الخصومة أو في نفسه خير كما أن الخصومة شر ﴿وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ﴾ جبلت عليه وجعل حاضرا لها لا ينفك عنها فلا تكاد المرأة تسمح بنصيبها من زوجها ولا الرجل يسمح بإمساكها على ما ينبغي إذا كرهها ﴿وَإِن تُحْسِنُواْ﴾ العشرة ﴿وَتَتَّقُواْ﴾ النشوز والإعراض ﴿فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ فيجازيكم عليه.