لكن اليهود بسبب ما انطوت عليه سريرتهم من شرّ - لم يستيقظوا من غفلتهم، ولم يخرجوا من ضلالتهم، ولم يتخلوا عن صلفهم وغرورهم، فرفع الله جبل الطور لينزله على رؤوسهم، حتى أخذ منهم العهد والميثاق وأمرهم أن ييدخلوا خاضعين خاشعين - من باب بيت المقدس - دلي على توبتهم وندمهم، وأكّد عليهم أن يكفوا عن أي عمل في أيّام السبت، وأن لا يسلكوا سبيل العدوان، وأن لا يأكلوا السمك الذي حرم صيده عليهم في ذلك اليوم، وفوق كل ذلك أخذ الله منهم ميثاقاً غليظاً مؤكّداً، ولكنّهم لم يثبتوا - مطلقاً - وفاءهم لأي من هذه المواثيق والعهود(1) يقول القرآن الكريم في هذا المجال: (ورفعنا فوقهم الطّور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجداً وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً).
فهل يصح أن تكون هذه المجموعة مع ما تمتلكه من سوابق سيئة وتاريخ أسود صادقة مع النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما طلبته منه وإِن كان هؤلاء صادقين، لماذا إِذن لم يلتزموا بما نزل عليهم صريحاً في كتابهم السماوي وحول العلامات الخاصّة بخاتم النّبيين؟ ولماذا أصروا على تجاهل كل ما أتى به النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من براهين وأدلة واضحة بيّنة؟
وهنا تجدر الإِشارة إِلى أمرين، وهما:
أوّلا: لو اعترض معترض فقال: إن تلك الأعمال كانت خاصّة باليهود السابقين، فما صلتها باليهود في زمن النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟
فنقول: إنّ اليهود في زمن النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يبدوا اعتراضاً واستنكاراً - أبداً - لأعمال أسلافهم السابقين، بل كانوا يظهرون الرضى عن تلك الأعمال.
أمّا الأمر الثّاني: فيخصّ مسألة نزول التوراة دفعة واحدة، حيث قلنا في سبب نزول الآيتين الأخيرتين: "إِنّ اليهود كانوا يزعمون نزول هذا الكتاب السماوي دفعة واحدة، في حين أنّ هذا الأمر لا يعتبر من الأُمور المؤكّدة، ولعل الشيء الذي أدى إِلى حصول هذا الوهم هو الوصايا العشرة" التي نزلت في ألواح دفعة واحدة على النّبي موسى(عليه السلام)، بينما لا يوجد لدينا دليل على نزول بقية أحكام التوراة دفعة واحدة.
﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ﴾ الجبل ﴿بِمِيثَاقِهِمْ﴾ بسببه ليخافوا فلا ينقضوه ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ﴾ وهو مطل عليهم ﴿ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ﴾ بأخذ الحيتان ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ وثيقا على ذلك فنقضوه.