﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
بحوث
1 – الميثاق:
المقصود من الميثاق في الآية الكريمة هو نفس ما جاء في الآية 40 من هذه السّورة وما سيأتي في الآيتين 83 و84 أيضاً.
مواد هذا الميثاق عبارة عن: توحيد الله، والإِحسان إلى الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين، والقول الصالح، وإقامة الصلاة، وأداء الزكاة، واجتناب سفك الدماء.
هذه المواد وردت في التّوراة كذلك.
من الآية 12 لسورة المائدة يتضح أيضاً أن الله أخذ ميثاق بني إسرائيل أن يؤمنوا بجميع الأنبياء ويساندوهم، وأن ينفقوا في سبيل الله.
وفي هذه الآية ضمان للقوم بدخول الجنّة إن عملوا بهذا الميثاق.
2 - رفع جبل الطّور:
أمّا بشأن كيفية رفع جبل الطور في قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾يقول الطبرسي عن أبي زيد: حدث هذا حين رجع موسى من الطور، فأتى بالألواح، فقال لقومه: جئتكم بالألواح وفيها التوراة والحلال والحرام فاعملوا بها.
قالوا: ومن يقبل قولك؟! فأرسل الله عزّ وجلّ الملائكة حتى نتقوا (رفعوا) الجبل فوق رؤوسهم، فقال موسى (عليه السلام) : إن قبلتم ما آتيتكم به وإلاّ أرسلوا الجبل عليكم، فأخذوا التوراة وسجدوا لله تعالى ملاحظين الجبل (أي وهم ينظرون إلى الجبل من طرف خفي)، فمن ثمّ يسجد اليهود على أحد شقي وجوههم».
مضمون هذه الآية ورد مع تفاوت بسيط في الآية 93 من سورة البقرة و154 النساء، و117 الأعراف.
الطبرسي - كما ذكرنا - وجمع من المفسرين - يذهبون إلى أن جبل الطور رفع فوق رؤوس بني إسرائيل بأمر الله لايجاد الظل عليهم، وهناك من يقول إن يزلزا شديداً ضرب الجبل، بحيث كان يرى بنو إسرائيل ظل قمة الجبل على رؤوسهم من شدة الإِهتزاز، وترقبوا أن يسقط الجبل عليهم، لكن الزلزال هدأ بفضل الله واستقرّ الجبل.
ويحتمل أيضاً أن تكون قد انفصلت من الجبل صخرة عظيمة بأمر الله على أثر زلزال شديد أو صاعقة، ومرّت فوق رؤوسهم في لحظات، فرأوها وتصوروا أنها ستسقط عليهم.
3 - الإِلتزام والإِرهاب:
يمسألة رفع الجبل فوق بني إسرائيل لتهديدهم عند أخذ الميثاق تثير سؤا بشأن إمكان تحقيق الإِلتزام عن طريق التخويف والإِرهاب.
هناك من قال: إن رفع الجبل فوقهم لا ينطوي على إرهاب وتخويف أو إكراه، لأن أخذ الميثاق بالإِكراه لا قيمة له.
والأصح أن نقول: لا مانع من إرغام الأفراد المعاندين المتمردين على الرضوخ للحق بالقوّة.
وهذ الإِرغام مؤقت هدفه كسر أنفتهم وعنادهم وغرورهم، ومن ثم دفعهم للفكر الصحيح، كي يؤدوا واجباتهم بعد ذلك عن إرادة وإختيار.
على أي حال، هذا الميثاق يرتبط بالمسائل العملية، لا بالجانب الإِعتقادي، فالمعتقدات لا يمكن تغييرها بالإِكراه.
4 - جبل الطّور:
اختلف المفسرون في المقصود من جبل «الطّور»، منهم من قال: إنه نفس الجبل الذي أُوحي فيه إلى موسى.
وقال آخرون: إنه اسم جنس بمعنى مطلق «الجبل» لا جبل بعينه.
وجاء تعبير (الجبل) بدل كلمة الطور في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ﴾.
5 - خذوا تعاليم السّماء بقوّة:
خاطب الله سبحانه بني إسرائيل فقال: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقوَّة﴾ وعن هذه الآية سئل الإِمام جعفر بن محمّد الصّادق (عليه السلام) عن المقصود من القوّة في هذه الآية: «أَبِقُوَّة بِالاَْبْدَانِ أَمْ بِقُوَّة فِي الْقُلُوبِ»؟
قَالَ: «بِهِمَا جَميعاً».
وهذا الأمر الإِلهي يتجه إلى كل أتباع الأديان الإِلهية في كل زمان ومكان، ويطلب منهم أن يتجهزوا بالقوى المادية والقوى المعنوية معاً، لصيانة خط التوحيد وإقامة حاكمية الله في الأرض.
﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ عن القيام به ﴿فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ بإمهالكم للتوبة وبمحمد يهديكم للحق ﴿لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ﴾ بإهلاككم أنفسكم بالمعاصي.