لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير الإِلزام بالوفاء بالعهد والميثاق: تدل الروايات الإِسلامية وأقوال المفسّرين على أنّ هذه السورة هي آخر سورة أو من السور الأخيرة التي نزلت على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد ورد في تفسير يالعياشي نقل عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّ الإِمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) قال: "نزلت المائدة قبل أن يقبض النّبي(عليه السلام) بشهرين أو ثلاثة"(1). وما ورد بشأن هذه السورة من أنّها من السور الناسخة وليست المنسوخة يعتبر إِشارة إِلى المعنى المذكور أعلاه. ولا يتنافى هذا الكلام مع ذلك الذي ورد في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا - في هامش الآية (281) من سورة البقرة - حيث قلنا هناك بأنّ هذه الآية هي آخر آية نزلت على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّ كلامنا الحالي هو عن آخر سورة نزلت على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكلامنا السابق كان عن آية واحدة. لقد تمّ التأكيد في هذه السورة - لما تمتاز به من موقع خاص - على مجموعة من المفاهيم الإِسلامية، وعلى آخر البرامج والمشاريع الدينية، وقضية قيادة الأُمّة وخلافة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد يكون هذا هو السبب في استهلال سورة المائدة بقضية الإِلزام بالوفاء بالعهد والميثاق، حيث تقول الآية في أوّل جملة لها: (يا أيّها الذين آمنوا أوفوا بالعقود...) وذلك لكي تلزم المؤمنين بالوفاء بعهودهم التي عقدوها في الماضي مع الله أو تلك التي أشارت إِليها هذه السورة. ويأتي هذا التأكيد على غرار ما يفعله المسافر في اللحظات الأخيرة، من الوداع مع أهله وأقاربه وأنصاره حيث يؤكّد عليهم أن لا ينسوا وصاياه ونصائحه، وأن يوفوا بالعهود والمواثيق التي عقدوها معه. ويجب الإِلتفات إِلى أنّ كلمة "عقود" هي صيغة جمع من "عقد" التي تعني في الأصل شد أطراف شيء معين ببعضها شداً محكماً، ومن هنا يسمّى شد طرفي الحبل أو شد حبلين ببعضهما "عقداً". بعد ذلك تنتقل الآية من هذا المعنى المحسوس إِلى المفهوم المعنوي فتسمّي كلّ عهد أو ميثاق عقداً، لكن بعض المفسّرين - قالوا بأنّ كلمة "عقد" مفهوم أضيق من العهد، لأن كلمة العقد تطلق على العهود المحكمة إحكاماً كافياً، ولا تطلق على كل العهود، وإِذا وردت في بعض الروايات أو في عبارات المفسّرين كلمتا العقد والعهد للدلالة على معنى واحد فذلك لا ينافي ما قلناه، لأنّ المقصود في هذه الروايات أو العبارات هو التّفسير الإِجمالي لهاتين الكلمتين لا بيان جزئياتهما. ونظراً لأنّ كلمة العقود هي صيغة جمع دخلت عليها الألف واللام للدلالة على الإِستغراق، والجملة التي وردت فيها هذه الكلمة جملة مطلقة أيضاً إِطلاقاً يتاماً، لذلك فإِن الآية - موضوع البحث - تعتبر دلي على وجوب الوفاء بجميع العهود التي تعقد بين أفراد البشر بعضهم مع البعض الآخر، أو تلك العهود التي تعقد مع الله سبحانه وتعالى عقداً محكماً. وبذلك تشمل هذه الآية جميع العهود والمواثيق الإِلهية والإِنسانية والإِتفاقيات السياسية والإِقتصادية والإِجتماعية، والتجارية، وعقود الزواج، وأمثال ذلك، ولها مفهوم واسع يطوي بين جنبيه جميع جوانب حياة الإِنسان العقائدية والعملية، ويشمل العهود الفطرية والتوحيدية وحتى العهود التي يعقدها الناس فيما بينهم على مختلف قضايا الحياة. وجاء في تفسير "روح المعاني" عن "الراغب الأصفهاني" أنّ العقد - نظراً لطرفيه ينقسم إِلى ثلاثة أنواع، فأحياناً يكون عقداً بين العبد وربّه، وطوراً بين الفرد ونفسه، وحيناً بين الفرد ونظائره من سائر أفراد البشر(2). وطبيعي أن لكل من هذه الأنواع الثلاثة من العقود طرفين، وغاية الأمر أنّ الإِنسان حين يتعاقد مع نفسه يفترض هذه النفس بمثابة الشخص الثّاني، أو الطرف الآخر من العقد. وعلى أي حال، فإِنّ مفهوم هذه الآية - لسعته - يشمل حتى تلك العقود والعهود التي يقيمها المسلمون مع غير المسلمين. وهناك عدّة أُمور في هذه الآية يجب الإِنتباه إِليها وهي: 1 - تعتبر هذه الآية من الآيات التي تستدل بها جميع كتب الفقه، في البحوث الخاصّة بالحقوق الإِسلامية وتستخلص منها قاعدة فقهية مهمة هي "أصالة اللزوم في العقود" أي أنّ كل عقد أو عهد يقام بين اثنين حول أشياء أو أعمال يكون لازم التنفيذ. ويعتقد جمع من الباحثين أنّ أنواع المعاملات والشركات والإِتفاقيات الموجودة في عصرنا الحاضر، والتي لم يكن لها وجود في السابق، أو التي ستوجد بين العقلاء في المستقبل، والتي تقوم على أسس ومقاييس صحيحة - تدخل ضمن هذه القاعدة، حيث تؤكّد هذه الآية صحتها جميعاً (وطبيعي أن الضوابط الكلية التي أقرّها الإِسلام للعقود والعهود يجب أن تراعى في هذا المجال). والإِستدلال بهذه الآية كقاعدة فقهية ليس معناه أنّها لا تشمل العهود الإِلهية المعقودة بين البشر وبين الله تعالى، أو القضايا الخاصّة بالقيادة والزعامة الإِسلامية التي أخذ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) العهد والميثاق فيها من الأُمّة، بل إِنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل جميع هذه الأُمور. وتجدر الإِشارة هنا إِلى أن حقيقة العهد والميثاق ذات طرفين، ولزوم الوفاء بالعهد يبقى سارياً مادام لم يقم أحد من المتعاقدين بنقض العهد، ولو نقض أحد الطرفين العقد لم يكن الطرف الثّاني عند ذلك ملزماً بالوفاء بالعهد إِذ يخرج العهد بهذا النقض من حقيقة العهد والميثاق. 2 - إِنّ قضية الوفاء بالعهد والميثاق التي تطرحها الآية - موضوع البحث - تعتبر واحداً من أهم مستلزمات الحياة الإِجتماعية، إِذا بدونها لا يتمّ أي نوع من التعاون والتكافل الإِجتماعي، وإِذا فقد نوع البشر هذه الخصلة فقدوا بذلك حياتهم الإِجتماعية وآثارها أيضاً. ولهذا تؤكد مصادر التشريع الإِسلامي بشكل لا مثيل له - على قضية الوفاء بالعهود التي قد تكون من القضايا النوادر التي تمتاز بهذا النوع من السعة والشمولية، لأنّ الوفاء لو انعدم بين ابناء المجتمع الواحد لظهرت الفوضى وعم الإِضطراب فيه وزالت الثقة العامّة، وزوال الثقة يعتبر من أكبر وأخطر الكوارث. وقد ورد في نهج البلاغة من قول الإِمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) مايلي: "فإِنّه ليس من فرائض الله شيء للناس أشدّ عليه اجتماعاً - مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم - من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيمابينهمـدون المسلمين - لما استوبلوا من عواقب الغدر"(3). وجملة "لما استوبلوا من عواقب الغدر" معناها: لما نالهم من وبال من عواقب الغدر. وينقل عن الإِمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنّه قال: "إِنّ الله لا يقبل إِلاّ العمل الصالح، ولا يقبل الله إِلاّ الوفاء بالشروط والعهود"(4). ونقل عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "لا دين لمن لا عهد له"(5). والتأكيدات الشديدة هذه كلها تدل على أنّ موضوع الوفاء بالعهد لا فرق في الإِلتزام به بين إِنسان وإِنسان آخر - سواء كان مسلماً أو غير مسلم - وهو - كما يصطلح عليه - يعتبر من حقوق الإِنسان بصورة عامّة، وليس - فقط - من حقوق أنصار الدين الواحد. وفي حديث عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) أنّه قال: "ثلاث لم يجعل الله عزَّ وجلّ لأحد فيهنّ رخصة: أداء الأمانة إِلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين! "(6). نقل عن الإِمام علي(عليه السلام) بأن العهد حتى لو كان بالإِشارة يجب الوفاء به، وذلك في قوله: "إذا أومى أحد من المسلمين أو أشار إِلى أحد من المشركين، فنزل على ذلك فهو في أمان"(7). وبعد أن تطرقت الآية إِلى حكم الوفاء بالعهد والميثاق - سواء كان إِلهياً أو إِنسانياً محضاً - أردفت ببيان مجموعة أُخرى من الأحكام الإِسلامية، كان الأوّل منها حلية لحوم بعض الحيوانات، فبيّنت أن المواشي واجنتها تحل لحومهما على المسلمين، حيث تقول الآية: (أُحلت لكم بهيمة الأنعام) وكلمة "الأنعام" صيغة جمع من "نِعم" وتعني الإِيل والبقر والأغنام(8). أمّا كلمة "بهيمة" فهي مشتقة من المصدر "بهمة" على وزن "تهمة" وتعني في الأصل الحجر الصلب، ويقال لكل ما يعسر دركه "مبهماً" وجميع الحيوانات التي لا تمتلك القدرة على النطق تسمى "بهيمة" لأنّ أصواتها تكون مبهمة للبشر، وقد جرت العادة على إِطلاق كلمة "بهيمة" على المواشي من الحيوانات فقط، فأصبحت لا تشمل الحيوانات الوحشية والطيور. ومن جانب آخر فإِن جنين المواشي يطلق عليه اسم "بهيمة" لأنّه يكون مبهماً نوعاً ما. وعلى الإساس المذكور فإِنّ حكم حلية (بهيمة الأنعام) يشمل إِمّا جميع المواشي ما عدا التي استثنتها الآية فيما بعد، أو تكون الجملة بمعنى أجنة الحيوانات من ذوات اللحم الحلال (تلك الأجنة التي اكتمل نموها وهي في بطن أُمّها، وكسى جلدها بالشعر أو الصوف)(9). ولما كان حكم حلية حيوانات كالإِبل والبقر والأغنام قد تبيّن للناس قبل هذه الآية، لذلك من المحتمل أن تكون الآية - موضوع البحث - إِشارة إِلى حلية أجنة هذه الحيوانات. والظاهر من الآية أنّها تشمل معنى واسعاً، أي تبيّن حلية هذه الحيوانات بالإِضافة إِلى حلية لحوم أجنتها أيضاً، ومع أنّ هذا الحكم كان قد توضح في السابق إِلاّ أنّه جاء مكرراً في هذه الآية كمقدمة للإِستثناءات الواردة فيها. ويتبيّن لنا ممّا تقدم أن علاقة الجملة الأخيرة وحكمها بالأصل الكليـالذيهو لزوم الوفاء بالعهد - هي التأكيد على كون الأحكام الإِلهية نوعاً من العهد بين الله وعباده - حيث تعتبر حلية لحوم بعض الحيوانات وحرمة لحوم البعض الآخر منها قسماً من تلك الأحكام. وفي الختام تبيّن الآية موردين تستثنيهما من حكم حلية لحوم المواشي، وأحد هذين الموردين هو اللحوم التي سيتم بيان حرمتها فيما بعد، حيث تقول الآية: (إلاّ ما يتلى عليكم) والمورد الثّاني هو أن يكون الإِنسان في حالة إِحرام للحج أو العمرة، حيث يحرم عليه الصيد في هذه الحالة، فتقول الآية: (غير محلّي الصيد وأنتم حرم)(10). وفي آخر الآية يأتي التأكيد على أنّ الله إِذا أراد شيئاً أو حكماً انجزه أو أصدره، لإنه عالم بكل شيء، وهو مالك الأشياء كلها، وإِذا رأى أن صدور حكم تكون فيه مصلحة عباده وتقتضي الحكمة صدوره، أصدر هذا الحكم وشرعه، حيث تقول الآية في هذا المجال: (إِنّ الله يحكم ما يريد). ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ في الخبر العهود ويعم كلما عقد الله على عباده وكلفهم به أو ويتعاقدونه بينهم ﴿أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ﴾ هي الأزواج الثمانية والجنين في بطن أمه إذا أشعر وأوبر فذكاته ذكاة أمه ﴿إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ تحريمه كآية حرمت عليكم الميتة إلخ ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ حال من ضمير لكم أو أوفوا ﴿وَأَنتُمْ حُرُمٌ﴾ حال من ضمير محلي أي أحلت لكم حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون ﴿إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ من تحليل أو غيره.