لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير لقد تمّت الإِشارة في بداية السورة إِلى الحلال من لحوم المواشي، ووردـأيضاً - أنّ هناك استثناءات تحرم فيها لحوم المواشي، حيث ذكرتها الآية الأخيرة - موضوع البحث - في أحد عشر مورداً تكرر ذكر بعضها في آيات قرآنية أُخرى على سبيل التأكيد. والمحرمات التي وردت في هذه الآية، بحسب الترتيب الذي جاءت عليه كما يلي: أوّلا: الميتة. ثانياً: الدم. ثالثاً: لحم الخنزير. رابعاً: الحيوانات التي تذبح باسم الأصنام، أو باسم غير اسم الله، كما كان يفعل الجاهليّون، وقد تحدثنا عن هذه اللحوم الأربعة المحرمة في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا. خامساً: الحيوانات المخنوقة، سواء كان الخنق بسبب الفخ الذي تقع فيه أو بواسطة الإِنسان أو بنفسها، وكان الجاهليون يخنقون الحيوانات أحياناً للإِنتفاع بلحومها وقد أشارت الآية إِلى هذا النوع باسم "المنخنقة". وورد في بعض الروايات أنّ المجوس كان من عادتهم أن يخنقوا الحيوانات التي يريدون أكلها، ولهذا يمكن أن تشملهم الآية أيضاً(1). سادساً: الحيوانات التي تموت نتيجة تعرضها للضرب والتعذيب، أو التي تموت عن مرض وسمّيت في الآية بـ "الموقوذة"(2). ونقل القرطبي في تفسيره أن عرب الجاهلية اعتادوا على ضرب بعض الحيوانات حتى الموت إِكراماً لأصنامهم وتقرباً لها. سابعاً: الحيوان الذي يموت نتيجة السقوط من مكان مرتفع، وقد سمي هذا النوع في الآية بـ "المتردية". ثامناً: الحيوان الذي يموت جراء نطحه من قبل حيوان آخر، وقد سمت الآية هذا النوع من الحيوانات بـ "النطيحة". تاسعاً: الحيوان الذي يقتل نتيجة هجوم حيوان متوحش عليه، وسمي هذا النوع في الآية بـ "ما أكل السبع". وقد يكون جزءاً من فلسفة تحريم هذه الأنواع من الحيوانات، هو عدم نزفها المقدار الكافي من الدم لدى الموت أو القتل، لأنّه ما لم تقطع عروق رقابها المضروبة بعنف حتى الموت. لا تنزف الدم بمقدار كاف، ولما كان الدم محيطاً مناسباً جداً لنمو مختلف أنواع الجراثيم، وبما أنّه يتفسخ حين يموت الحيوان قبل الأجزاء الاُخرى من الجسد، لذلك يتسمم لحم الحيوان ولا يمكن أن يعد هذا اللحم من اللحوم السليمة، وغالباً ما يحصل هذا التسمم عندما يموتالحيوان على أثر مرض أو من جراء التعذيب أو نتيجة تعرضه لملاحقة حيوان متوحش آخر. من جانب آخر فإِنّ الشرط المعنوي للذبح لا يتحقق في أي نوع من تلك الحيوانات، أي شرط ذكر اسم الله وتوجيه الحيوان صوب القبلة لدى الذبح. لقد ذكرت الآية شرطاً واحداً لو تحقق لأصبحت لحوم الحيوانات المذكورة يحلا، وهذا الشرط هو أن يذبح الحيوان قبل موته وفق الآداب والتقاليد الإِسلامية، ليخرج الدم منه بالقدر الكافي فيحل بذلك لحمه، ولذلك جاءت عبارة (إلاّ ما ذكيتم) بعد موارد التحريم مباشرة. ويرى بعض المفسّرين أن هذا الإِستثناء يخص القسم الأخير فقط، أي ذلك الذي جاء تحت عنوان: (وما أكل السبع) لكن أغلب المفسّرين يرون أنّ الإِستثناء يشمل جميع الأنواع المذكورة، والنظرية الأخيرة أقرب للحقيقة من غيرها. وهنا قد يسأل البعض: لماذا لم تدخل جميع أنواع الحيوانات المحرمة في الآية في إطار "الميتة" التي ذكرت كأوّل نوع من المحرمات الأحد عشر في الآية، أليست الميتة في مفهومها تعني كل الأنواع المذكورة؟ والجواب هو: إِنّ الميتة لها معان واسعة من حيث مفهوم الفقهي الشرعي، فكل حيوان لم يذبح وفق الطريقة الشرعية يدخل في إِطار مفهوم الميتة، أمّا المعنى اللغوي للميتة فيشمل - فقط - الحيوان الذي يموت بصورة طبيعية. ولهذا السبب فإِن الأنواع المذكورة في الآية - غير الميتة - لا تدخل من الناحية اللغوية ضمن مفهوم الميتة، وهي محتاجة إِلى البيان والتوضيح. عاشراً: كان الوثنيون في العصر الجاهلي ينصبون صخوراً حول الكعبة ليست على أشكال أو هيئات معينة، وكانوا يسمون هذه الصخور بـ "النصب" حيث كانوا يذبحون قرابينهم أمامها ويمسحون الصخور تلك بدم القربان. والفرق بين النصب والأصنام هو أنّ النصب ليست لها أشكال وصور بخلاف الأصنام، وقد حرم الإِسلام لحوم القرابين التي كانت تذبح على تلك النصب، فجاء حكم التحريم في الآية بقوله تعالى: (وما ذُبح على النّصب). وواضح أنّ تحريم هذا النوع من اللحوم إِنّما يحمل طابعاً معنوياً وليس مادياً. وفي الحقيقة فإِن هذا النوع يعتبر من تلك القرابين التي تدخل ضمن مدلول العبارة القرآنية: (وما أُهل لغير الله به) وقد ذكر تشخيصاً في الآية بسبب رواجه لدى عرب الجاهلية. أحد عشر: وهناك نوع آخر من اللحوم المحرمة، وهو اللحوم التي تذبح وتوزع بطريقة القمار، وتوضيح ذلك هو أنّ عشرة من الأشخاص يتراهنون فيما بينهم فيشترون حيواناً ويذبحونه، ثمّ يأتون بعشرة سهام كتب على سبعة منها عبارة "فائز"، وعلى الثلاثة الأخرى كتبت عبارة "خاسر"، فتوضع في كيس وتسحب واحدة واحدة باسم كل من الأشخاص العشرة على طريقة الإِقتراع، فالأشخاص الذين تخرج النبال السبعة الفائزة باسمائهم يأخذون قسماً من اللحم دون أن يدفعوا ثمناً لما أخذوه من اللحم، أمّا الأشخاص الثلاثة الآخرون الذين تخرج النبال الخاسرة باسمائهم فيتحملون ثمن الحيوان بالتساوي، فيدفع كلّ واحد منهم ثلث قيمة الحيوان دون أن يناله شيء من لحمه. وقد سمى الجاهليون هذه النبال بـ "الأزلام" وهي صيغة جمع من "زلم" وقد حرم الإِسلام هذا النوع من اللحوم، لا بمعنى وجود تأصل الحرمة في اللحم، بل لأنّ الحيوان كان يذبح في عمل هو أشبه بالقمار، ويجب القول هنا أن تحريم القمار وأمثاله لا ينحصر في اللحوم فقط، بل إن القمار محرم في كل شيء وبأيّ صورة كان. ولكي تؤكّد الآية موضوع التحريم وتشدد على حرمة تلك الأنواع من اللحوم تقول في الختام: (ذلكم فسق).(3) الإِعتدال في تناول اللحوم: إِنّ الذي نستنتجه من البحث المار الذكر ومن المصادر الإِسلامية الأُخرى، يهو أنّ الإِسلام اتبع في قضية تناول اللحوم أُسلوباً معتد تمام الإِعتدال جرياً على طريقته الخاصّة في أحكامه الأُخرى. ويختلف اُسلوبه هذا اختلافاً كبيراً مع ما سار عليه الجاهليون في أكل لحم النصب والميتة والدم وأشباه ذلك، وما يسير عليه الكثير من الغربيين في الوقت الحاضر في أكل حتى الديدان والسلاحف والضفادع وغيرها. ويختلف مع الطريقة التي سار عليها الهنود في تحريم كل أنواع اللحوم على أنفسهم. فقد أباح الإِسلام لحوم الحيوانات التي تتغذى على الأشياء الطاهرة التي لا تعافها النفس البشرية، وألغى الأساليب التي فيها طابع الإِفراط أو التفريط. وقد عيّن الإِسلام شروطاً أبان من خلالها أنواع اللحوم التي يحلّ للإِنسان الإِستفادة منها، وهي: 1 - لحوم الحيوانات التي تقتات على الأعشاب، أمّا الحيوانات التي تقتات على اللحوم فهي غالباً ما تأكل لحوم حيوانات ميتة أو موبوءة، وبذلك قد تكون سبباً في نقل أنواع الأمراض لدى تناول لحومها، بينما الحيوانات التي تأكل العشب يكون غذاؤها سليماً وخالياً من الأمراض. وقد تقدم أيضاً في تفسير الآية (72) من سورة البقرة بأنّ الحيوانات تورث صفاتها عن طريق لحومها أيضاً، فمن يأكل لحم حيوان متوحش يرث صفات الوحش كالقسوة والعنف، وبناء على هذا الدليل - أيضاً - حرمت لحوم الحيوانات الجلاّلة، وهي التي تأكل فضلات غيرها من الحيوانات. 2 - أن لا تكون الحيوانات التي ينتفع من لحمها كريهة للنفس الإِنسانية. 3 - أن لا يترك لحم الحيوان أثراً سيئاً أو ضاراً على جسم أو نفس الإِنسان. 4 - لقد حرمت الحيوانات التي تذبح في طريق الشرك في سبيل الأصنام، وأمثال ذلك لما فيها من نجاسة معنوية. 5 - لقد بيّن الإِسلام أحكاماً خاصّة لطريقة ذبح الحيوانات لكل واحد منهاـبدوره - الأثر الصحي والأخلاقي على الإِنسان. بعد أنّ بيّنت الآية الأحكام التي مرّ ذكرها أوردت جملتين تحتويان معنى عميقاً: الأُولى منهما تقول: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون). والثّانية هي: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإِسلام ديناً). متى أكمل الله الدين للمسلمين: إِنّ أهمّ بحث تطرحه هاتان الفقرتان القرآنيتان يتركز في كنهه وحقيقته كلمة "اليوم" الواردة فيهما. فأيّ يوم يا ترى هو ذلك "اليوم" الذي اجتمعت فيه هذه الأحداث الأربعة المصيرية، وهي يأس الكفار، وإِكمال الدين، وإِتمام النعمة، وقبول الله لدين الإِسلام ديناً ختامياً لكل البشرية؟ لقد قال المفسّرون الكثير في هذا المجال، وممّا لا شك فيه ولا ريب أن يوماً عظيماً في تاريخ حياة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - كهذا اليوم - لا يمكن أن يكون يوماً عادياً كسائر الأيّام، ولو قلنا بأنّه يوم عادي لما بقي مبرر لإِضفاء مثل هذه الأهمية العظيمة عليه كما ورد في الآية. وقيل أنّ بعضاً من اليهود والنصارى قالوا في شأن هذا اليوم بأنّه لو كان قد ورد في كتبهم مثله لإتّخذوه عيداً لأنفسهم ولاهتموا به اهتماماً عظيماً(4). ولنبحث الآن في القرائن والدلائل وفي تاريخ نزول هذه الآية وتاريخ حياة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والروايات المختلفة المستفادة من مصادر إِسلامية عديدة، لنرى أي يوم هو هذا اليوم العظيم؟ ترى هل هو اليوم الذي أنزل فيه الله الأحكام المذكورة في نفس الآية والخاصّة بالحلال والحرام من اللحوم؟ بديهي أنّه ليس ذلك لأنّ نزول هذه الأحكام لا يوجب إِعطاء تلك الأهمية العظيمة، ولا يمكن أن يكون سبباً لإِكمال الدين، لأنّها لم تكن آخر الأحكام التي نزلت على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والدليل على هذا القول ما نراه من أحكام تلت الأحكام السابقة في نزولها، كما لا يمكن القول بأن الاحكام المذكورة هي السبب في يأس الكفار، بل إنّ ما يثير اليأس لدى الكفار هو إِيجاد دعامة راسخة قوية لمستقبل الإِسلام، وبعبارة أُخرى فإِنّ نزول أحكام الحلال والحرام من اللحوم لا ييترك أثراً في نفوس الكفار، فماذا يضيرهم لو كان بعض اللحوم حلا وبعضها الآخر حراماً؟! فهل المراد من ذلك "اليوم" هو يوم عرفة من حجّة الوداع، آخر حجّة قام بها النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (كما احتمله بعض المفسّرين)؟ وجواب هذا السؤال هو النفي أيضاً، لأنّ الدلائل المذكورة لا تتطابق مع هذا التّفسير، حيث لم تقع أيّ حادثة مهمّة في مثل ذلك اليوم لتكون سبباً ليأس الكفار ولو كان المراد هو حشود المسلمين الذين شاركوا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في يوم عرفة، فقد كانت هذه الحشود تحيط بالنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكّة قبل هذا اليوم أيضاً، ولو كان المقصود هو نزول الأحكام المذكورة في ذلك اليوم، فلم تكن الأحكام تلك شيئاً مهمّاً مخيفاً بالنسبة للكفار. ثمّ هل المقصود بذلك "اليوم" هو يوم فتح مكة(كما احتمله البعض)؟ ومن المعلوم أنّ سورة المائدة نزلت بعد فترة طويلة من فتح مكة! أو أنّ المراد هو يوم نزول آيات سورة البراءة، ولكنها نزلت قبل فترة طويلة من سورة المائدة. والأعجب من كل ما ذكر هو قول البعض بأن هذا اليوم هو يوم ظهور الإِسلام وبعثة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أن هذين الحدثين لا علاقة زمنية بينهما وبين يوم نزول هذه الآية مطلقاً وبينهما فارق زمني بعيد جدّاً. وهكذا يتّضح لنا أنّ أيّاً من الإِحتمالات الستة المذكورة لا تتلاءم مع محتوى الآية موضوع البحث. ويبقى لدينا احتمال أخير ذكره جميع مفسّري الشيعة في تفاسيرهم وأيدوه كما دعمته روايات كثيرة، وهذا الإِحتمال يتناسب تماماً مع محتوى الآية حيث يعتبر "يوم عذير خم" أي اليوم الذي نصب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً أميرالمؤمنين(عليه السلام)بصورة رسمية وعلنية خليفة له، حيث غشى الكفار في هذا اليوم سيل من اليأس، وقد كانوا يتوهمون أن دين الإِسلام سينتهي بوفاة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن الأوضاع ستعود إِلى سابق عهد الجاهلية، لكنّهم حين شاهدوا أنّ النّبي أوصى بالخلافة بعده لرجل كان فريداً بين المسلمين في علمه وتقواه وقوته وعدالته، وهو علي بن أبي طالب(عليه السلام)، ورأوا النّبي وهو يأخذ البيعة لعلي(عليه السلام) أحاط بهم اليأس من كل جانب، وفقدوا الأمل فيما توقعوه من شر لمستقبل الإِسلام وأدركوا أن هذا الدين باق راسخ. يففي يوم غدير خم أصبح الدين كام، إِذ لو لم يتمّ تعيين خليفة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولو لم يتمّ تعيين وضع مستقبل الأُمّة الإِسلامية، لم تكن لتكتمل الشريعة بدون ذلك ولم يكن ليكتمل الدين. نعم في يوم غذير خم أكمل الله وأتمّ نعمته بتعيين علي(عليه السلام)، هذا الشخصية اللائقة الكفؤ، قائداً وزعيماً للأُمة بعد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وفي هذا اليوم - أيضاً - رضي الله بالإِسلام ديناً، بل خاتماً للأديان، بعد أن اكتملت مشاريع هذا الدين، واجتمعت فيه الجهات الأربع. وفيما يلي قرائن أُخرى إِضافة إِلى ما ذكر في دعم وتأييد هذا. التّفسير أ - لقد ذكرت تفاسير "الرازي" و"روح المعاني" و"المنار" في تفسير هذه الآية أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعش أكثر من واحد وثمانين يوماً بعد نزول هذه الآية، وهذا أمر يثير الإِنتباه في حد ذاته، إِذ حين نرى أنّ وفاة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت في اليوم الثّاني عشر من ربيع الأوّل (بحسب الروايات الواردة في مصادر جمهور السنّة، وحتى في بعض روايات الشيعة، كالتي ذكرها الكليني في كتابه المعروف بالكافي) نستنتج أن نزول الآية كان بالضبط في يوم الثامن عشر من ذي الحجّة الحرام، وهو يوم غدير خم(5). ب - ذكرت روايات كثيرة - نقلتها مصادر السنّة والشيعة - أنّ هذه الآية الكريمة نزلت في يوم غدير خم، وبعد أن أبلغ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين بولاية علي بن أبي طالب(عليه السلام)، ومن هذه الروايات: 1 - ما نقله العالم السنّي المشهور "ابن جرير الطبري" في كتاب "الولاية" عن "زيد بن أرقم" الصحابي المعروف، أنّ هذه الآية نزلت في يوم غدير خم بشأن علي بن أبي طالب(عليه السلام). 2 - ونقل الحافظ "أبو نعيم الأصفهاني" في كتاب "ما نزل من القرآن بحق علي(عليه السلام)" عن "أبي سعيد الخدري" وهو صحابي معروف - أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطى في "يوم غدير خم" علياً منصب الولاية... وإِنّ الناس في ذلك اليوم لم يكادوا ليتفرقوا حتى نزلت آية: (اليوم أكملت لكم دينكم...) فقال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي تلك اللحظة "الله أكبر على إِكمال الدين وإِتمام النعمة ورضى الرب برسالتي وبالولاية لعلي(عليه السلام) من بعدي" ثمّ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله". 3 - وروى "الخطيب البغدادي" في "تاريخه" عن "أبي هريرة" عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ آية (اليوم أكملت لكم دينكم...) نزلت عقيب حادثة "غدير خم" والعهد بالولاية لعلي(عليه السلام) وقول عمر بن الخطاب: "بخ بخ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم"(6). وجاء في كتاب "الغدير" إِضافة إِلى الروايات الثلاث المذكورة، ثلاث عشرة رواية أُخرى في هذا المجال. ورود في كتاب "إحقاق الحق" عن الجزء الثّاني من تفسير "ابن كثير" من الصفحة 14 وعن كتاب "مقتل الخوارزمي" في الصفحة 47 عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ هذه الآية نزلت في واقعة غديرخم. ونرى في تفسير "البرهان" وتفسير "نور الثقلين" عشر روايات من طرق مختلفة حول نزول الآية في حق علي(عليه السلام) أو في يوم غدير خم، ونقل كل هذه الروايات يحتاج إِلى رسالة منفردة(7). وقد ذكر العلاّمة السيد عبد الحسين شرف الدين في كتابه "المراجعات" أن الروايات الصحيحة المنقولة عن الإِمامين الباقر والصّادق(عليهما السلام) تقول بنزول هذه الآية في "يوم غدير خم" وإنّ جمهور السنّة أيضاً قد نقلوا ستة أحاديث بأسانيد مختلفة عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تصرح كلها بنزول الآية في واقعة غدير خم(8). يتّضح ممّا تقدم أنّ الروايات والأخبار التي أكّدت نزول الآية - موضوع البحث - في واقعة غدير خم ليست من نوع أخبار الأحاد لكي يمكن تجاهلها، عن طريق اعتبار الضعف في بعض أسانيدها، بل هي أخبار إِن لم تكن في حكم المتواتر فهي على أقل تقدير من الأخبار المستفيضة التي تناقلتها المصادر الإِسلامية المشهورة. ومع ذلك فإِنّنا نرى بعضاً من العلماء المتعصبين من أهل السنّة كالآلوسي في تفسير "روح المعاني" الذي تجاهل الأخبار الواردة في هذا المجال لمجرّد ضعف سند واحد منها، وقد وصم هؤلاء هذه الرواية بأنّها موضوعة أو غير صحيحة، لأنّها لم تكن لتلائم أذواقهم الشخصية، وقد مرّ بعضهم في تفسيره لهذه الآية مرور الكرام ولم يلمح إليها بشيء، كما في تفسير المنار، ولعل صاحب المنار وجد نفسه في مأزق حيال هذه الروايات فهو إن وصمها بالضعف خالف بذلك منطق العدل والإِنصاف، وإن قبلها عمل شيئاً خلافاً لميله وذوقه. وقد وردت في الآية (55) من سورة النور نقطة مهمّة جديرة بالإِنتباه - فالآية تقول: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصّالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً...) والله سبحانه وتعالى يقطع في هذه الآية وعداً على نفسه بأن يرسخ دعائم الدين، الذي ارتضاه للمؤمنين في الأرض. ولمّا كان نزول سورة النور قبل نزول سورة المائدة، ونظراً إِلى جملة (رضيت لكم الإِسلام ديناً) الواردة في الآية الأخيرة - موضوع البحث - والتي نزلت في حق علي بن أبي طالب(عليه السلام)، لذلك كله نستنتج أنّ حكم الإِسلام يتعزز ويترسخ في الأرض إِذا اقترن بالولاية، لأن الإِسلام هو الدين الذي ارتضاه الله ووعد بترسيخ دعائمه وتعزيزه، وبعبارة أوضح أن الإِسلام إِذا أُريد له أن يعم العالم كله يجب عدم فصله عن ولاية أهل البيت (عليهم السلام). أمّا الأمر الثّاني الذي نستنتجه من ضمن الآية الواردة في سورة النور إِلى الآية التي هي موضوع بحثنا الآن، فهو أن الآية الأُولى قد أعطت للمؤمنين وعودا ثلاثة: أوّلها: الخلافة على الأرض. والثّاني: تحقق الأمن والإِستقرار لكي تكون العبادة لله وحده. والثّالث: استقرار الدين الذي يرضاه الله في الأرض. ولقد تحققت هذه الوعود الثلاثة في "يوم غدير خم" بنزول آية: (اليوم أكملت لكم دينكم...) فمثال الإِنسان المؤمن الصالح هو علي(عليه السلام) الذي نصب وصيّاً للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ودلت عبارة (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم...) على أن الأمن قد تحقق بصورة نسبية لدى المؤمنين، كما بيّنت عبارة: (ورضيت لكم الإِسلام ديناً) إِنّ الله قد اختار الدين الذي يرتضيه، وأقرّه بين عباده المسلمين. وهذا التّفسير لا ينافي الرواية التي تصرح بأنّ آية سورة النور قد نزلت في شأن المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، وذلك لأنّ عبارة (آمنوا منكم) لها معنى واسع تحقق واحد من مصاديقه في "يوم غدير خم" وسيتحقق على مدى أوسع وأعم في زمن ظهور المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف (وعلى أساس هذا التّفسير فإِنّ كلمة الأرض في الآية الأخيرة ليست بمعنى كل الكرة الأرضية، بل لها مفهوم واسع يمكن أن يشمل مساحة من الأرض أو الكرة الأرضية بكاملها). ويدل على هذا الأمر المواضع التي وردت فيها كلمة "الأرض" في القرآن الكريم، حيث وردت أحياناً لتعني جزءاً من الأرض، وأُخرى لتعني الأرض كلها، (فامعنوا النظر ودققوا في هذا الأمر). سؤال يفرض نفسه: وأخيراً بقي سؤال ملح وهو: أوّلا: إن الأدلة المذكورة في الآية - موضوع البحث - والأدلة التي ستأتي في تفسير الآية (67) من سورة المائدة والتي تقول: (يا أيّها الرّسول بلغ ما أنزل إِليك...) لو كانت كلها تخص واقعة واحدة، فلماذا فصل القرآن بين هاتين الآيتين ولم تأتيا متعاقبين في مكان واحد؟ وثانياً: لا يوجد ترابط موضوعي بين ذلك الجزء من الآية الذي يتحدث عن واقعة "غدير خم" وبين الجزء الآخر منها الذي يتحدث عن الحلال والحرام من اللحوم، فما هو سبب هذه المفارقة الظاهرة؟(9) الجواب: أوّلا: نحن نعلم أنّ الآيات القرآنية - وكذلك سور القرآن الكريم - لم تجمع كلها مرتبة بحسب نزولها الزمني، بل نشاهد كثيراً من السور التي نزلت في المدينة فيها آيات مكية أي نزلت في مكة، كما نلاحظ آيات مدنية بين السور المكية أيضاً. وبناءً على هذه الحقيقة، فلا عجب - إِذن - من وجود هذا الفاصل في القرآن بين الآيتين المذكورتين (ويجب الإِعتراف بأن ترتيب الآيات القرآنية بالصورة التي هي عليها الآن قد حصل بأمر من النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه) فلو كانت الآيات القرآنية مرتبة بحسب زمن نزولها لأصبح الإِعتراض وارداً في هذا المجال. ثانياً: هناك احتمال بأن يكون سبب حشر موضوع واقعة "غدير خم" في آية تشمل على موضوع لا صلة لها به مطلقاً، مثل موضوع أحكام الحلال والحرام من اللحوم، إِنما هو لصيانة الموضوع الأوّل من أن تصل إِليه يد التحريف أو الحذف أو التغيير. إِنّ الأحداث التي وقعت في اللحظات الأخيرة من عمر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإِعتراض الصريح الذي واجهه طلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكتابة وصيته، إِلى حدّ وصفوا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لدى طلبه هذا الأمر بأنّه يهجر (والعياذ بالله) وقد وردت تفاصيل هذه الوقائع في الكتب الإِسلامية المعروفة، سواء عن طريق جمهور السنّة أو الشيعة، وهي تدل بوضوح على الحساسية المفرطة التي كانت لدى نفر من الناس تجاه قضية الخلافة بعد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث لم يتركوا وسيلة إِلاّ استخدموها لإِنكار هذا الامر(10). فلا يستبعد - والحالة هذه - أن تتخذ اجراءات وقائية لحماية الأدلة والوثائق الخاصّة بالخلافة من أجل إِيصالها إِلى الأجيال المتعاقبة دون أن تمسّها يد التحريف أو الحذف، ومن هذه الإِجراءات حشر موضوع الخلافة - المهم جدّاً - في القرآن بين آيات الأحكام الشرعية الفرعية لإِبعاد عيون وأيدي المعارضين والعابثين عنها. إِضافة إِلى ذلك - وكما أسلفنا في حديثنا - فإِنّ الوثائق الخاصّة بنزول آية: (اليوم أكملت لكم دينكم...) الو? ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ التي تموت حتف أنفها ﴿وَالْدَّمُ﴾ أي المسفوح منه ﴿وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ﴾ رفع الصوت به للصنم أو ما لم يسم الله سمي غيره أم لا ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ التي ماتت بالخنق ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ التي تضرب حتى تموت ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ التي تردت من علو إلى أسفل فماتت ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾ التي نطحها أخرى فماتت ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ منه فمات ﴿إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ أدركتم ذكاته من المذكورات سوى الخنزير والدم ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ على حجر أو صنم ﴿وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ﴾ بالقداح هو قمار كان في الجاهلية فحرمه الله وفسر بميسر كان بينهم وهو استقسام الجزور بالأقداح العشرة على الأنصباء المعلومة ﴿ذَلِكُمْ﴾ التناول للمذكورات ﴿فِسْقٌ﴾ حرام ﴿الْيَوْمَ﴾ أي الآن أو يوم نزولها وهو يوم الجمعة عرفة حجة الوداع ﴿يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ﴾ فيقطع طمعهم من ارتدادكم ﴿فَلاَ تَخْشَوْهُمْ﴾ أن يقهروكم ﴿وَاخْشَوْنِ﴾ بإخلاص ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ ببيان الأحكام والفرائض وأصول الشرائع أو ينصركم على عدوكم وروى العامة والخاصة أنها نزلت بعد نصب النبي عليا خليفة يوم غدير خم ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ بولاية علي أو إكمال الدين أو فتح مكة ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ من بين الأديان ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ إلى تناول شيء من هذه المحرمات وهو متصل بالمحرمات وما بينهما اعتراض ﴿فِي مَخْمَصَةٍ﴾ مجاعة ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ﴾ غير متعمد أو مائل ﴿لِّإِثْمٍ﴾ بأن يأكل تلذذا أو يتعدى حد الضرورة أو يبغي على الإمام أو يقطع الطريق ﴿فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ بعباده لا يعاقب المضطر فيما رخص له.