التّفسير
كيف يمكن للمسيح أن يكون هو الله؟!
جاءت هذه الآية الكريمة لتكمل بحثاً تطرقت إِليه آيات سابقة، فحملت بعنف على دعوى ربوبية المسيح(عليه السلام)، وبيّنت أنّ هذه الدعوى ما هي إِلاّ الكفر الصريح، حيث قالت: (لقد كفر الذين قالوا إِنّ الله هو المسيح ابن مريم...).
ولكي يتّضح لنا مفهوم هذه الجملة، يجب أن نعرف أنّ للمسيحيين عدّة دعاوي باطلة بالنسبة إِلى الله سبحانه وتعالى.
يفهم أوّلا: يعتقدون بالآلهة الثلاث (أي الثالوث) وقد أشارت الآية (171) من سورة النساء إِلى هذا الأمر حيث قالت: (لا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إِنّما الله إِله واحد...)(1).
وثانياً: إنّهم يقولون: إِنّ خالق الكون والوجود هو واحد من هؤلاء الآلهة الثلاث ويسمونه بالإِله الأب(2) والقرآن الكريم يبطل هذا الإِعتقاد - أيضاً - في الاية (73) من سورة المائدة حيث يقول: (لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة وما من إِله إِلاّ إِله واحد...) وسيأتي بإِذن الله تفسير هذه الآية قريباً في نفس هذا الجزء.
وثالثاً: إِنّ المسيحيين يقولون: إِنّ الآلهة الثلاث مع تعددهم الحقيقي هم واحد، حيث يعبرون عن ذلك أحياناً بـ "الوحدة في التثليث"، وهذا الأمر أشارت إِليه الآية الأخيرة حيث قالت حكاية عن دعوى المسيحيين: (إِنّ الله هو المسيح ابن مريم...) وقالوا: إِنّ المسيح ابن مريم هو الله! وإِن هذين الإِثنين يشكلان مع روح القدس حقيقة واحدة في ذوات ثلاثة متعددة!
وقد ورد كل جانب من جوانب عقيدة التثليث، الذي يعتبر من أكبر إنحرافات المسيحيين في واحدة من الآيات القرآنية، ونفي نفياً شديداً (راجع تفسير الآية 171 - من سورة النساء من تفسيرنا هذا وفيه التوضيح اللازم في بيان بطلان عقيدة التثليث).
ويتبيّن - ممّا سلف - أنّ بعض المفسّرين مثل "الفخر الرازي" قد توهّموا في قولهم بعدم وجود أحد من النصارى ممن يصرح باعتقاده في اتحاد المسيح بالله، وذلك لعدم إِلمام هؤلاء المفسّرين بالكتب المسيحية، مع أنّ المصادر المسيحية المتداولة تصرح بقضية "الوحدة في التثليث" ومن المحتمل أن مثل هذه الكتب لم تكن متداولة في زمن الرازي، أو أنّها لم تصل إِليه وإِلى أمثاله الذين شاركوه في هذا الرأي.
بعد ذلك ولكي تبطل الآية الكريمة عقيدة أُلوهية المسيح(عليه السلام) تقول: (قل فمن يملك من الله شيئاً إِن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأُمّه ومن في الأرض جميعاً...)وهذه إِشارة إِلى أنّ المسيح(عليه السلام) إنّما هو بشر كأُمه وكسائر أفراد البشر، وعلى هذا الأساس فهو يعتبر - لكونه مخلوقاً - في مصاف المخلوقات الأُخرى يشاركها في الفناء والعدم، ومن حاله كهذا كيف يمكنه أن يكون إِلهاً أزلياً أبدياً؟!
وبتعبير آخر: لو كان المسيح(عليه السلام) إِلهاً لإِستحال على خالق الكون أن يهلكه، وتكون نتيجة ذلك أن تتحدد قدرة هذا الخالق، ومن كانت قدرته محدودة لا يمكن أن يكون إِلهاً، لأنّ قدرة الله كذاته لا تحدّها حدود مطلقاً (تدبّر جيداً).
إِنّ ذكر عبارة "المسيح بن مريم" بصورة متكررة في الآية، قد يكون إِشارة إِلى هذه الحقيقة، وهي إعتراف المسيحيين ببنوّة المسيح(عليه السلام) لمريم، أي أنّه ولد يمن أُم وأنّه كان جنيناً في بطن أُمّه قبل أن يولد، وحين ولد طف احتاج إِلى النموّ ليصبح كبيراً، فهل يمكن أن يستقر الإِله في محيط صغير كرحم الأُمّ، ويتعرض لجميع تحولات الوجود والولادة ويحتاج للأُمّ حين كان جنياً وحين الرضاعة؟!
والجدير بالإِنتباه أنّ الآية الأخيرة تذكر بالإِضافة إِلى اسم المسيح(عليه السلام) اسم أُمّه وتذكرها بكلمة "أُمه" وبهذه الصورة تميز الآية أُمّ المسيح(عليه السلام) عن سائر أفراد البشر، ويحتمل أن يكون هذا التعبير بسبب أنّ المسيحيين أثناء ممارستهم للعبادة، يعبدون أُمّ المسيح أيضاً، والكنائس الموجودة اليوم تشتمل على تماثيل لأُم المسيح، حيث يقف المسيحيون أمامها تعظيماً وتعبداً.
وإِلى هذا الأمر تشير الآية (116) من سورة المائدة فتقول: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأُمي إِلهين من دون الله...) وهذا الخطاب حكاية عمّا يحصل من حوار في يوم القيامة.
وفي الختام ترد الآية الكريمة على أقوال اُولئك الذين اعتبروا ولادة المسيح يمن غير أب دلي على أُلوهيته فتقول: (ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير).
فالله قادر على أن يخلق إِنساناً من غير أب ومن غير أُم كما خلق آدم(عليه السلام)، وهو قادر أيضاً على أن يخلق إِنساناً من غير أب كما خلق عيسى المسيح(عليه السلام)، وقدرة الله هذه كقدرته في خلق البشر من آبائهم وأمّهاتهم، وهذا التنوع في الخلق يدليل على قدرته، وليس دلي على أي شيء آخر سوى هذه القدرة.
﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ قيل: هم اليعقوبية القائلون بالإتحاد، وقيل: لم يصرحوا به ولكن لزمهم ذلك لزعمهم أنه لاهوتي وقولهم بوحدة الإله ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ﴾ من يمنع من أمره ﴿شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾ فالمسيح مقهور لا يملك دفع الهلاك عن نفسه كسائر الممكنات فكيف يكون إلها ﴿وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ ومنه المسيح ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يخلق من ذكر وأنثى، ومن ذكر بلا أنثى كحواء، ومن أنثى بلا ذكر كعيسى، ومن غير ذكر وأنثى كآدم.