وكانت نتيجة صلف وعناد بني إِسرائيل أنّهم لاقوا عقابهم، إِذ استجاب الله دعاء نبيه موسى(عليه السلام)، فحرم عليهم دخول الأرض المقدسة، المليئة بالخيرات مدّة أربعين عاماً، وفي هذا المجال تقول الآية القرآنية الكريمة: (قال فإِنّها محرمة عليهم أربعين سنة...).
وزادهم عذاباً إِذ كتب عليهم التيه والضياع في البراري والقفار طيلة تلك الفترة، حيث تقول الآية في ذلك: (يتيهون في الأرض...) وقد سميت الصحراء التي تاه فيها بنو إِسرائيل باسم "التيه" أيضاً، وكانت جزءاً من صحراء سيناء، كما ذكرنا في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا.
بعد ذلك تذكر الآية أنّ ما نال بنيإِسرائيل من عذاب في تلك المدة، كان مناسباً لما فعلوه، وتطلب من موسى(عليه السلام) أن لا يحزن على المصير الذي لا قوه حيث تقول الآية الكريمة: (فلا تأس على القوم الفاسقين).
وربما كان سبب ورود الجملة الأخيرة، هو أنّ موسى(عليه السلام) قد ثارت عاطفته بعد أن علم بالعذاب الذي كتبه الله على بنيإِسرائيل، فطلب من الله العفو لقومه - كما ورد في التوراة المتداولة - فأجابه برد سريع أوضح له أن بنيإِسرائيل يستحقون ذلك العذاب، وهم لا يستحقون العفو الإِلهي لأنّهم أُناس فاسقون وعصاة، متكبرون، ومن كان هذا شأنه سيلاقي - حتماً - مثل هذا المصير.
ويجب الإِنتباه إِلى أنّ حرمان بنيإِسرائيل من الدخول إِلى الأرض المقدسة، لم يكن له طابع للإِنتقام (كما أن جميع العقوبات الإِلهية ليس فيها طابع إنتقامي، بل هي إِما أن تكون لأجل تقويم شخصية الفرد، أو تكون نتيجة لأخطائه ومعاصيه.
وقد اشتمل هذا الحرمان على فلسفة خاصّة، حيث تحرر بنوإِسرائيل بعد معاناة طويلة قاسوها في ظل الكبت والقمع الفرعوني اللذين خلفا فيهم عقد الإِحساس باحتقار النفس والذل والضعة والنقص، لذلك فهم لم يبدوا استعداداً لتطهير أنفسهم وأرواحهم في تلك الفترة بعد التحرر وفي ظل قيادة وزعامة نبيّهم موسى(عليه السلام) كما لم يكونوا مستعدين لتلك القفزة المعنوية التي كان من شأنها أن تهيء لهم حياة جديدة مقرونة بالفخر والعز والسؤدد، وجوابهم لموسى(عليه السلام) - الذي اشتمل على رفضهم الدخول إِلى ميدان الجهاد التحرري في الأرض المقدسة - خير دليل على هذه الحقيقة.
لذلك كان من الضروري أن يعاني بنو إِسرائيل من التيه والضياع في الصحراء، ليزول الجيل الضعيف العاجز منهم بشكل تدريجي وليحل محله جيل جديد في محيط الصحراء، محيط الحرية وفي أحضان التعاليم الإِلهية، وقد صقلت نفوسهم حياة الصحراء القاسية الضارية، ووهبت لأرواحهم وأنفسهم القوة والقدرة، وأعدتهم لخوض غمار ذلك الجهاد ليقيموا حكومة الحق في تلك الأرض المقدسة!
﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ لا يدخلونها ﴿أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ﴾ يسيرون فيها متحيرين ﴿فَلاَ تَأْسَ﴾ لا تحزن ﴿عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ روي: لبثوا في التيه أربعين سنة يسيرون من المساء إلى الصباح فإذا هم بحيث ارتحلوا عنه، ومات فيه هارون ثم موسى.