التّفسير
التّستر على الجريمة:
تواصل هاتان الآيتان بقية الواقعة التي حصلت بين إبني آدم(عليه السلام)، فتبيّن الآية الأُولى منهما أن نفسى قابيل هي التي دفعته إلى قتل أخيه فقتله، حيث تقول: (فطوعت له نفسه قتل أخيه).
ونظراً لأنّ كلمة "طوع" تأتي في الأصل من "الطاعة" لذلك يستدل من هذه العبارة على أن قلب "قابيل" بعد أن تقبل الله قربان أخيه هابيل أخذت تعصف به الأحاسيس والمشاعر المتناقضة، فمن جانب استعرت فيه نار الحسد وكانت تدفعه إِلى الإِنتقام من أخيه "هابيل" ومن جانب آخر كانت عواطفه الإِنسانية وشعوره الفطري يقبح الذنب والظلم والجور وقتل النفس، يحولان دون قيامه بارتكاب الجريمة، لكن نفسه الأمارة بالسوء تغلبت رويداً رويداً على مشاعره الرادعة فطوعت ضميره الحي وكبلته بقيودها واعدته لتقل أخيه، وتدل عبارة "طوعت" مع قصرها على جميع المعاني التي ذكرناها لأنّ عملية التطويع كما نعلم لا تتمّ في لحظة واحدة، بل تحصل بشكل تدريجي وعبر صراعات مختلفة.
وتشير الآية - في آخرها - إِلى نتيجة عمل "قابيل" فتقول (فأصبح من الخاسرين) فأين ضرر أكبر من أن يشتري الإِنسان لنفسه عذاباً سيلازمه إِلى يوم القيامة، ويشمل عذاب الضمير وعقاب الله والعار والأبدي.
وقد حاول البعض الإِستدلال من كلمة "أصبح" على أن جريمة القتل قد يوقعت لي، في حين أنّ كلمة "أصبح" من حيث معناها اللغوي لا تنحصر في يزمن معين لي مكان أم نهاراً، بل تدل على حدوث شيء ما، كما جاء في الآية (103) من سورة آل عمران في قوله تعالى: (...فأصبحتم بنعمته إِخواناً...).
وتفيد بعض الروايات المنقولة عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) أن قابيل حين قتل أخاه ترك جثته في العراء حائراً لا يدري ما يفعل بها، فلم يمض وقت حتى حملت الوحوش المفترسة على جثة "هابيل" فاضطر "قابيل" (ربّما نتيجة لضغط وجداني شديد) إلى حمل جثة أخيه مدة من الزمن لإِنقاذها من فتك الوحوش، لكن الطيور الجارحة أحاطت به وهي تنتظر أن يضعها على الأرض للهجوم عليها ثانية وفي تلك الأثناء بعث الله غراباً (كما تصرّح الآية) فأخذ يحفر الأرض ويزيح التراب ليدفن جسد غراب ميت آخر، أو ليخفي جزءاً من طعامه - كما هي عادة الغربان - وليدل بذلك "قابيل" كيف يدفن جثة أخيه.
﴿فَطَوَّعَتْ﴾ سهلت ﴿لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ﴾ قيل وهو ابن عشرين سنة بالهند، أو عقبة حراء، أو موضع مسجد البصرة ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ للدارين إذ بقي عمره طريدا فزعا.