سبب النّزول
وردت روايات عديدة في سبب نزول الآيتين الأخيرتين أوضحها ما نقل عن الإِمام الباقر (ع) في هذا المجال، وخلاصة ذلك أنّ أحد وجهاء اليهود في منطقة خيبر كان متزوجاً، فارتكب عملا غير شرعي ومخالفاً للعفة مع امرأة متزوجة من عائلة خيبرية مشهورة، فاغتم اليهود كيف ينفذون حكم التّوراة (الرجم) في وجيههم ذلك وفي شريكته في الذنب، فأخذوا يبحثون عن حل لهذه المعضلة لينقذوهما من العقوبة المذكورة، وفي نفس الوقت ليظهروا التزامهم بالأحكام الإِلهية، ودفعهم هذا الأمر إِلى الإِستعانة بأبناء طائفتهم الموجودين في المدينة المنورة، وطلبوا منهم أن يسألوا عن حكم هذه الحادثة من النبي محمّد (ص) (حتى إِذا كان الحكم بسيطاً وخفيفاً أخذوا به، وإِذا كان شديداً تجاهلوه وتناسوه، ولعلهم أرادوا بسؤالهم ذلك أن يلفتوا انتباه نبيّ الإِسلام إِلى أنفسهم وليظهروا أنفسهم بأنّهم أصدقاء للمسلمين).
ولهذا الغرض توجه عدد من وجهاء يهود المدينة للقاء النبي محمّد (ص)، فسألهم النبي (ص) إِن كانوا سيقبلون بكل حكم يصدره، فأجابوه بأنّهم قدموا إِليه لهذا السبب! فنزل في تلك الأثناء حكم رجم مرتكب الزنا مع المرأة المحصنة، لكن اليهود لم يبدوا استعداداً لقبول هذا الحكم، بدعوى أنّ ديانتهم تخلو من مثله، فرد عليهم النبي (ص) بأنّ هذا الحكم هو نفس ذلك الذي هو عندهم في التّوراة، وسألهم إِن كانوا يقبلون بحضور أحد علمائهم ليتلو عليهم حكم التّوراة في تلك القضية ليأخذوا به، فوافقوا على ذلك، فسألهم النّبي عن رأيهم في العالم اليهودي (ابن صوريا) الذي كان يقطن منطقة (فدك) فأجابوه بأنّه خير من يعرف التّوراة من اليهود.
فبعث النّبي (ص) إِلى هذا العالم، فلمّا قدم عنده أقسم عليه النّبي (ص) بالله الواحد الأحد الذي أنزل التّوراة على موسى وفلق البحر لإِنقاذ بني إِسرائيل وأغرق عدوّهم فرعون وأنزل عليهم نعمه في صحراء سيناء، أن يصدق القول إِن كان حكم الرجم قد نزل في التّوراة في مثل تلك الواقعة أم لم ينزل؟ فأجاب العالم اليهودي (ابن صوريا) بأنّه مرغم بسبب القسم الذي أقسمه عليه النّبي أن يقول الحقيقة ويعترف بوجود حكم الرجم في التّوراة.
فسأل النّبي (ص) اليهود عن سبب احجامهم عن تطبيق الحكم المذكور، فأجاب (ابن صوريا) بأنّهم كانوا يطبقون هذا الحكم بحقّ العامّة من أبناء طائفتهم ويصونون الأثرياء والوجهاء منهم من تنفيذ هذا الحكم بحقّهم، فأدى هذا التهاون إِلى انتشار الخطيئة المذكورة بين أثرياء اليهود حتى بادر إِلى ارتكابها ابن عم لأحد رؤساء الطائفة، فلم يطبق بحقه الحكم الشرعي بحسب العادة المتبعة لديهم، وصادف في نفس ذلك الوقت أن ارتكب نفس الخطيئة أحد عامّة الناس من أبناء الطائفة، فأرادوا تطبيق حكم الرجم بحقّه لكن أقاربه اعترضوا على ذلك، وقالوا: إِذا كان لابدّ من تنفيذ هذا الحكم فيجب أن ينفذ بحق الاثنين (الوجيه اليهودي والشخص الآخر العادي)، فعمد عند ذلك علماء الطائفة إِلى سنّ حكم أخف من الرجم وهو أن يجلد الزناة 40 جلدة وتسود وجوههم ويركبوا دابة ويطاف بهم في أزقة وأسواق المنطقة!
فأمر النّبي محمّد (ص) على الفور أن يرجم ذلك الرجل الوجيه والمرأة الثرية أمام المسجد (1) وأشهد الله في ذلك الحين بأنّه هو أول شخص يحيي حكم الله بعد أن أماته اليهود.
في تلك الأثناء نزلت الآيتان الأخيرتان وتحدّثتا عن القضية المذكورة بالإِيجاز.
التّفسير
التّحكيم بين الأنصار والأعداء:
تدلّ هاتان الآيتان والآيات التي تليهما، على أنّ للقاضي المسلم الحق - في ظل شروط خاصّة - في الحكم في جرائم الطوائف الأُخرى من غير المسلمين، وسيأتي شرح هذا الموضوع في تفسير نفس هذه الآيات.
لقد بدأت الآية الاُولى - من الآيتين الأخيرتين - الخطاب بعبارة (يا أيّها الرّسول) وقد وردت هذه العبارة في مكانين من القرآن: أوّلهما في الآية موضوع البحث، والثّاني في الآية (67) من نفس هذه السورة والتي تتعرض لقضية الولاية والخلافة.
وربّما جاء استخدام هذا التعبير من أجل إِثارة أكثر لدافع الشعور بالمسؤولية لدى النّبي (ص) وتعزيز ارادته، ومخاطبته بأنّه هو رسول الله، وعليه أن يستقيم ويصمد في ابلاغ الحكم المكلّف به.
بعد ذلك تطمئن الآية النّبي (ص) - كتمهيد لبيان الحكم التالي - فتقول: (لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم).
ويرى البعض أن عبارة (يسارعون في الكفر) تختلف عن عبارة "يسارعون إِلى الكفر" وذلك لأنّ العبارة الاُولى تقال بشأن أفراد كافرين غارقين في كفرهم، ويتسابقون فيما بينهم للوصول إِلى آخر مرحلة من الكفر، أمّا العبارة الثّانية فتقال في من يعيشون خارج حدود الكفر لكنّهم يتسابقون للوصول إِليه (2).
وبعد أن تذكر الآية تجاوزات المنافقين والأعداء الداخليين، تتناول وضع الأعداء الخارجيين واليهود الذين كانوا سبباً لحزن النّبي (ص) فتقول الآية: (ومن الذين هادوا...).
﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ في إظهاره إذا وجدوا منه فرصة ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾ بيان ﴿قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ متعلقة بقالوا ﴿وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾ حال أو عطف على قالوا ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ زيدت اللام لتضمين السماع معنى القبول أي قابلون لما تفتريه أحبارهم أو للعلة والمفعول محذوف أي سماعون قولك ليكذبوا عليك ﴿سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾ أي قابلون لقول قوم آخرين من اليهود لم يحضروا عندك تكبرا أو بغضا لك أو سماعون منك لأجلهم ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ عن مواضعه التي وضعه الله فيها ﴿يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ﴾ أي إن أفتاكم محمد بهذا الحكم المحرف فاقبلوه ﴿وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ شَيْئًا﴾ بل أفتاكم بخلافه ﴿فَاحْذَرُواْ﴾ أن تقبلوه نزلت في عبد الله بن أبي حيث قالت له بنو النضير: إن بيننا وبين قريظة عهد في القتل مخالف للتوراة فسل محمدا أن لا ينقضنا إن تحاكمنا إليه فقال ابعثوا رجلا يسمع كلامي وكلامه فإن حكم لكم بما تريدون وإلا فلا ترضوا به ﴿وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ﴾ اختياره ليفتضح ﴿فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ﴾ في دفع أمره شيئا ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ حيث اختاروا تدنيسها بالكفر لعلمه بأن لطفه لا ينجع فهيم ﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾ ذل بالجزية والفضيحة ﴿وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ بتخليدهم النار والضمير للفريقين أو اليهود.