التّفسير
بعد الآيات التي تحدثت عن التّوراة جاءت هذه الآية، وهي تشير إِلى حال الإِنجيل وتؤكّد بعثة ونبوة المسيح (ع) بعد الأنبياء الذين سبقوه، وتطابق الدلائل التي جاء بها مع تلك التي وردت في التّوراة، حيث تقول الآية: (وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التّوراة...) ولهذه الجملة القرآنية تفسير آخر وهو أنّ عيسى المسيح (ع) قد أقرّ بحقيقة كلّ ما نزل في التّوراة على النّبي موسى (ع) كاقرار جميع الأنبياء (عليهم السلام) بنبوة من سبقوهم من الأنبياء، وبعدالة ما جاؤوا به من أحكام.
ثمّ تشير الآية الكريمة إِلى انزال الإِنجيل على المسيح (ع) وفيه الهداية والنّور فتقول: (وآتيناه الإِنجيل فيه هدى ونور) وقد أطلق اسم النّور في القرآن المجيد على التّوراة والإِنجيل والقرآن نفسه، حيث نقرأ بشأن التّوراة قوله تعالى: (إِنّا أنزلنا التّوراة فيها هدى ونور) (1).
وأمّا الإِنجيل فقد أُطلقت عليه الآية الأخيرة اسم النّور.
والقرآن - أيضاً - حيث نقرأ قوله تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) (2).
فكما أنّ النّور يعتبر - في الحقيقة - ضرورة حتمية لجميع الموجودات من أجل أن تواصل حياتها، كذلك تكون الأديان الإِلهية والشرائع والكتب السماوية ضرورة حتمية لنضوج وتكامل بني الإِنسان.
وقد ثبت من حيث المبدأ أنّ مصدر كل الطاقات والقوى والحركات وكل أنواع الجمال هو النّور، فكذلك الحال في تعليمات الأنبياء وارشاداتهم، فلولاها لساد الظلام كل القيم الإِنسانية سواء الفردية منها أو الإِجتماعية، وهذا ما نلاحظه في المجتمعات المادية بكل وضوح.
لقد كرر القرآن الكريم في مجالات متعددة أنّ التّوراة والإِنجيل هما كتابان سماويان، ومع أن هذين الكتابين - دون شك - منزلان في الأصل من قبل الله سبحانه وتعالى، لكنّهما - بالتأكيد - قد تعرضا بعد حياة الأنبياء إِلى التحريف، فحذفت منهما حقائق وأضيفت إِليهما خرافات، وأدى ذلك إِلى أن يفقدا قيمتهما الحقيقية، أو أنّ الكتب الأصلية تعرضت للنسيان والتجاهل وحلت محلها كتب أُخرى حوت على بعض الحقائق من الكتب الأصلية (3).
وعلى هذا الأساس فإنّ كلمة النّور التي أُطلقت في القرآن الكريم على هذين الكتابين، إِنما عنت التّوراة والإِنجيل الأصليين الحقيقيين.
بعد ذلك تكرر الآية التأكيد على أن عيسى (ع) لم يكن وحده الذي أيد وصدق التّوراة، بل أن الإِنجيل - الكتاب السماوي الذي نزل عليه - هو الآخر شهد بصدق التّوراة حيث تقول الآية: (مصدقاً لما بين يديه من التّوراة...).
وفي الختام تؤكّد الآية أنّ هذا الكتاب السماوي قد حوى سبل الرشاد والهداية والمواعظ للناس المتقين، حيث تقول: (وهدى وموعظة للمتقين).
وتشبه هذه العبارة، عبارة أُخرى وردت في بداية سورة البقرة، حين كان الحديث يدور عن القرآن الكريم، حيث جاء قوله تعالى: (هدى للمتقين).
إِن هذه الصفة لا تنحصر بالقرآن وحده، بل أن كل الكتب السماوية تحتوي على سبل الهداية للناس المؤمنين المتقين، والمراد بالمتقين هم أُولئك الذين يبحثون عن الحق والحقيقة والمستعدون لقبول الحق، وبديهي أن الذين يغلقون أبواب قلوبهم اصراراً وعناداً بوجه الحق، لن ينتفعوا بأي حقيقة أبداً.
والملفت للنظر في هذه الآية أيضاً، أنّها ذكرت أوّلا أنّ الإِنجيل (فيه هدى) ثمّ كررت الآية كلمة (هدى) بصورة مطلقة، وقد يكون المراد من هذا الإِختلاف في التعبير هو بيان أنّ الإِنجيل والكتب السماوية الأُخرى تشتمل على دلائل الهداية للناس - جميعاً - بصورة عامّة، ولكنّها بصورة خاصّة - تكون باعثاً لهداية وتربية وتكامل الأتقياء من النّاس الذي يتفكرون فيها بعمق وتدبر.
﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ﴾ حال ﴿وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾.