سبب النّزول
جاء في تفسير "مجمع البيان" وتفسير القرطبي، عن ابن عباس قال: جاء جماعة من اليهود إِلى رسول الله (ص) فقالوا: ألست تقرّ بأن التّوراة من عند الله؟
قال: "بلى".
قالوا: فإنّا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها (وفي الحقيقة فانّ التّوراة تعتبر القدر المشترك بيننا وبينكم، ولكنّ القرآن كتاب مختص بكم).
فنزلت الآية الاُولى.
التّفسير
لاحظنا في ما سبق من تفسير آيات هذه السورة أنّ قسماً كبيراً منها يدور حول العقبات التي كان يضعها أهل الكتاب "اليهود والنصارى" في طريق المسلمين وما كانوا يوردونه من مجادلة وتساؤل، هذه الآية - أيضاً - تشير إِلى جانب آخر من ذلك الموضوع، ترد فيها على منطقهم الواهي الداعي إِلى اعتبار التّوراة كتاباً متفقاً عليه بين المسلمين واليهود، وترك القرآن باعتباره موضع خلاف.
لذلك فالآية تخاطب الرّسول (ص) قائلة: (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التّوراة والإِنجيل وما أنزل إِليكم من ربّكم).
وذلك لأنّ هذه الكتب - كما قلنا - صادرة عن مبدأ واحد وأصولها واحدة، ولمّا كان آخر هذه الكتب السماوية أكملها وأجمعها فإنّه هو الأجدر بالعمل به، كما أنّ الكتب السابقة تحمل بشائر وارشادات إِلى آخر الكتب، وهو القرآن، فإِذا كانوا - حسب زعمهم - يقبلون التّوراة والإِنجيل، وكانوا صادقين في زعمهم، فلا مندوحة لهم عن القبول بتلك البشائر أيضاً، وإِذ وجدوا تلك العلامات في القرآن، فإن عليهم أن يحنوا رؤوسهم خضوعاً لها.
هذه الآية تقول أنّ الإِدعاء لا يكفي، بل لابدّ من إِتباع ما جاء في هذه الكتب السماوية عملياً، ثمّ أن القضية ليست "كتابنا" و"كتابكم"، بل هي الكتب السماوية وما أنزل من الله، فكيف تريدون بمنطقكم الواهي هذا أن تتجاهلوا آخر كتاب سماوي؟
ويعود القرآن ليشير إِلى حالة أكثريتهم، فيقرّر أنّ أكثرهم لا يأخذون العبرة والعظة من هذه الآيات ولا يهتدون بها، بل أنّهم - لمّا فيهم من روح العناد - يزدادون في طغيانهم وكفرهم (وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إِليك من ربك طغياناً وكفراً).
وهكذا يكون التأثير المعكوس للآيات الصادقة والقول المتزن في النفوس المملوءة عناداً والجاجاً.
وفي ختام الآية يخفف الله من حزن رسوله (ص) إِزاء تصلب هذه الأكثرية من المنحرفين وعنادهم، فيقول له (فلا تأس على القوم الكافرين) (1).
هذه الآية ليست مقصورة على اليهود - طبعاً - فالمسلمون أيضاً إِذا اكتفوا بادعاء الإِسلام ولم يقيموا تعاليم الأنبياء، وخاصة ما جاء في كتابهم السماوي، فلن تكون لهم منزلة ومكانة لا عند الله، ولا في حياتهم الفردية والإِجتماعية، بل سيظلون دائماً أذلاء ومغلوبين على أمرهم.
﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ﴾ يعتد به من الدين ﴿حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ من الكتب بالعمل بما فيها ومنه الإيمان واتباعي ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ لا تحزن عليهم.