التّفسير
تواصل هذه الآيات البحث الذي جاء في الآيات السابقة حول غلو المسيحيين في المسيح (ع) واعتقادهم بألوهيته، فتفند في بضع آيات قصار اعتقادهم هذا، وتبدأ متسائلة عمّا وجدوه في المسيح من إِختلاف عن باقي الأنبياء حتى راحوا يؤلهونه، فالمسيح ابن مريم قد بعثه الله كما بعث سائر الأنبياء من قبله: (ما المسيح ابن مريم إِلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل).
إِذا كان بعثه من قبل الله سبباً للتأليه والشرك، فلماذا لا تقولون القول نفسه بشأن سائر الأنبياء؟
ولكنّنا نعلم أنّ المسيحيين المنحرفين لا يقنعون باعتبار عيسى (ع) مجرّد مبعوث من الله، فاعتقادهم العام في الوقت الحاضر هو اعتباره ابن الله، وأنّه هو الله بمعنى من المعاني وأنّه جاء ليفتدي ذنوب البشر (ولم يأت لهدايتهم وقيادتهم) لذلك أطلقوا عليه اسم "الفادي" أي الذي افتدى بنفسه آثام البشر.
ولمزيد من التوكيد، يقول: (وأُمّه صديقة) أي أنّ من تكون له أُمّ حملته في رحمها، ومن يكون محتاجاً إِلى كثير من الأُمور، كيف يمكن أن يكون إِلهاً؟! ثمّ إِذا كانت أُمّه صديقة فذلك لأنّها هي أيضاً على خط رسالة المسيح (ع)، منسجمة معه، وتدافع عن رسالته، لهذا فقد كان عبداً من عباد الله المقربين، فينبغي ألاّ يتخذ معبوداً كما هو السائد بين المسيحيين الذين يخضعون أمام تمثاله إِلى حدّ العبادة.
ومرّة أُخرى يشير القرآن إِلى دليل آخر ينفي الربوبية عن المسيح (ع)، فيقول: (كانا يأكلان الطعام).
فهذا الذي يحتاج إِلى الطعام، ولو لم يتناول طعاماً لعدّة أيّام يضعف عن الحركة، كيف يمكن أن يكون ربّاً أو يقرن بالربّ؟!
وفي ختام الآية إِشارة وضوح هذه الدلائل من جهة، وإِلى عناد أُولئك وجهلهم من جهة أُخرى، فيقول: (انظر كيف نبيّن لهم الآيات ثمّ انظر كيف يؤفكون) (1).
تكرر كلمة "انظر" في الآية توجيه للنظر إِلى جهتين: إِلى الدلائل الواضحة الكافية لكل شخص، وإِلى رد الفعل السلبي المحير المثير للعجب الصادر من هؤلاء.
﴿مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ﴾ مضت ﴿مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ فهو مثلهم ليس بإله ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ بين غاية كمالهما وأنه لا يوجب إلهيتهما ثم بين نقصهما المنافي للألوهية بقوله ﴿كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ﴾ ويحتاجان إليه كغيرهما ﴿انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ﴾ الدالة على بطلان قولهم ﴿ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ كيف يصرفون عن تدبرها.