لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَو أَشَدُّ قَسْوَةً﴾. إنها أشد قسوة من الحجارة، لأن بعض الحجارة تتفجر منها الأنهار، أو تنبع منها المياه أو تسقط من خوف الله: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الاَْنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾. لكن قلوب بني إسرائيل أشدّ قسوة من الحجارة، فلا تنفجر منها عاطفة ولا علم، ولا تنبع منها قطرة حبّ، ولا تخفق من خوف الله. والله عالم بما تنطوي عليه القلوب وما تفعله الإيدي: ﴿وَمَا اللهُ بَغَافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾. بحوث 1 - أسئلة كثيرة تافهة: «السّؤال» دون شك مفتاح لحل المشاكل، ووسيلة لإزالة الجهل والإِبهام، لكنه مثل بقية الأُمور إن تجاوز حدّه وجاء في غير موضعه فإنّه يدلّ على الإِنحراف ويؤدي إلى أضرار، ومن ذلك ما نراه في هذه القصة. بنو إسرائيل أُمروا أن يذبحوا بقرة. وكان بإمكانهم أن يذبحوا أيّة بقرة شاؤوا، لأن الأمر الإِلهي لم يحدّد شكل البقرة ونوعها، ولو أراد الله بقرة بعينها لحدّد مواصفاتها حين الأمر. لكن الله أمرهم أن يذبحوا «بقرة» وصيغة التنكير تدل على عدم إرادة التحديد. يهؤلاء المعاندون أبوا إلاّ أن يطرحوا أسئلة متكررة، أم في تضييع الحقيقة وإخفاء القاتل، وبقوا يصرون على ترددهم في الذبح حتى النهاية، وهذا ما تشير إليه عبارة: ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾. وفي الآيات ما يشير إلى أن مجموعة من بني إسرائيل - على الأقل - كانت تعرف القاتل، وقد يكون القتل قد تمّ بمؤامرة بين هؤلاء الأفراد، لكنهم كانوا يكتمون الأمر، ولهذا يقول سبحانه: ﴿وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتِمُونَ﴾. أضف إلى ما سبق أنّ أهل العناد واللجاج يكثرون دائماً من الجدل والإِحتجاج على كل شيء. وثمة قرائن في الآيات توضح أن هؤلاء القوم لم تكن لهم معرفة كاملة بالله ولا بالنبي المرسل إليهم، لذلك قالوا له بعد كل أسئلتهم: ﴿اَلآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾، يوكأنّ ما جاء به حتى ذلك الوقت كان باط!! والملاحظ أن الله سبحانه ضيّق عليهم دائرة الإِنتخاب، واشتد بذلك عليهم التكليف كلّما زادوا في أسئلتهم، لأنهم مستحقون لمثل هذا العقاب. ولذلك نرى في الأثر حثّ على السكوت عمّا سكتت عنه تعاليم السماء ففي ذلك حكمة. عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِأَدْنى بَقَرَة وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا شَدَّدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ شَدَّدَ الله عَلَيْهِمْ». 2 - مدلول هذه الأوصاف: كان تكليف بني إسرائيل - كما ذكرنا - مطلقاً غير مقيّد بمواصفات معيّنة. لكن لجاج هؤلاء ضيّق عليهم الدائرة وغيّر عليهم حكم التكليف. إلى جانب هذه الحقيقة، ثمة حقيقة اجتماعية قد يمكن استنتاجها من الأوصاف التي ذكرت للبقرة. يبدو أن القرآن يريد أن يبين أنّ البقرة التي كتب لها أن تحيى فرداً ميّتاً ينبغي يأن لا تكون «ذلو» أي تأبى التسليم والخضوع الأعمى. كما أنها ذات لون واحد خالص لا تشوبه ألوان اُخرى. يوهذا يعني أن القائد الذي يستهدف إحياء المجتمع ينبغي أوّ أن يكون متحرراً من تأثيرات الضغوط الإِجتماعية التي يمارسها أصحاب الثروة والجاه والقوّة، وأن يستسلم لله وحده دون أن تأخذه في ذلك لومة لائم، كما أن القائد يجب أن يكون مبرّءاً من أي لون غير اللون التوحيدي، ومثل هؤلاء الأفراد فقط يستطيعون أن يعالجوا أُمور النّاس باتزان واعتدال ويبعثوا في قلوب وأفكار أُمّتهم الخصب والحياة. أما المنشدّ بنير الدنيا والخاضع لها والمشوب بالألوان والأهواء فلا يستطيع أن يحيي القلوب الميتة، ولا يقدر أن ينهض بدور الإحياء. 3 - ما هو دافع القتل؟ تذكر كتب التأريخ والتّفسير أن دافع القتل في هذه الحادثة إمّا المال، أو الزّواج. من المفسرين من قال إنّ ثرياً من بني إسرائيل لم يكن له وارث سوى ابن عمه، فطال عمر هذا الثري ولم يطق الوارث مزيداً من الإِنتظار، فقتله خفية ليحصل على أمواله، وألقى جسده في الطريق، ثم بدأ بالصراخ والعويل، وشكا الأمر إلى موسى. وقال آخرون: إنّ القاتل أراد أن يتزوج من ابنة القتيل، فرفض ذلك، وزوّج ابنته إلى أحد أخيار بني إسرائيل. فقعد له وقتله، ثم شكا القاتل الأمر إلى موسى. ومن الممكن أن تشير القصة إلى حقيقة هي: إن كل المفاسد والجرائم مصدرها في الغالب أمران: الطمع في المال، والطمع في الجنس. 4 - العِبر في هذه القصّة: هذه القصة لها دلالات على قدرة الله اللامتناهية، وكذلك على مسألة المعاد، ولذلك وردت في الآية 73 عبارة ﴿كَذَلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى﴾ إشارة إلى مسألة المعاد، وعبارة ﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ تأكيد على قدرة الله وعظمته. إضافة إلى ماسبق، هذه القصة تتحدث عن سنّة من سنن الله تعالى، وهي أن الاُمّة تستوجب غضب الله حين تصرّ على عنادها ولجاجها واستهتارها بكل شيء. العبارات التي وردت على لسان بني إسرائيل في هذه القصة توضّح أن هؤلاء القوم بلغوا الذروة في إهانة النّبي، بل وبلغت بهم الجرأة إلى إساءة الأدب تجاه ربّ العالمين. في البداية قالوا لنبيّهم: ﴿أتَتَّخِذُنَا هُزُواً﴾؟ وبذلك اتهموا نبيّهم بارتكاب ذنب الإِستهزاء بالآخرين. وفي مواضع عديدة خاطبوه بعبارة ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ﴾، وكأن ربّ موسى غير ربّهم، مع أن موسى قد قال لهم: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ﴾. وقالوا له أيضاً: ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ ويعنون بذلك أنّ كلام موسى أدّى إلى ضلالهم في تشخيص البقرة، ثمّ يخاطبوه في النهاية: ﴿اَلآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾. هذه التعبيرات تدل على جهل هؤلاء القوم وتعنّتهم وغرورهم ولجاجهم. وهذه القصة من جهة اُخرى تعلّمنا أننا ينبغي أن لا نتزمّت ولا نتشدّد في الأُمور كي لا يتشدّد الله معنا. ولعل انتخاب البقرة للذبح يستهدف غسل أدمغة هؤلاء القوم من فكرة عبادة العجل. 5 - الإِحسان إلى الأب: يذكر المفسرون أنّ البقرة التي ذكرت الآيات مواصفاتها، كانت وحيدة لا تشاركها بقرة اُخرى في ذلك، ولذلك اضطر القوم إلى شرائها بثمن باهظ. ويقولون: إن هذه البقرة كانت ملكاً لشاب صالح على غاية البّر بوالده. هذا الرجل واتته سابقاً فرصة صفقة مربحة، كان عليه أن يدفع فيها الثمن نقداً. وكانت النقود في صندوق مغلق مفتاحه تحت وسادة والده. حين جاء الرجل ليأخذ المفتاح وجد والده نائماً، فأبى إيقاظه وازعاجه، ففضّل أن يترك الصفقة على أن يوقظ والده. وقال بعض المفسرين: «كان البائع على استعداد لأن يبيع بضاعته بسبعين ألفاً نقداً، ولكن الرجل أبى أن يوقظ والده واقترح شراء تلك البضاعة بثمانين ألفاً على أن يدفع المبلغ بعد استيقاظ والده. وأخيراً لم تتم صفقة المعاملة، ولذا أراد الله تعالى تعويضه على ايثاره هذا بمعاملة اُخرى وفيرة الربح. وقالوا أيضاً: بعد أن استيقظ الوالد وعلمه بالأمر، أهدى لولده البقرة المذكورة، فدّرت عليه ربحاً عظيماً». وإلى هذه القصّة يشير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إ«أُنْظُروا إِلَى البّر مَا بَلَغَ بَأَهْلِهِ», ﴿ثُمَّ قَسَتْ﴾ غلظت وجفت ويئست من الخير والرحمة ﴿قُلُوبُكُم﴾ معاشر اليهود ﴿مِّن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ بعد ما بينت الآيات الباهرات ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ أي زائدة عليها في القسوة ولم يقل أقسى لأن أشد أبلغ أي من عرفها شبهها بالحجارة أو ما هو أقسى منها ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ﴾ بيان التفضيل في الأشدية ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ﴾ ينبع ﴿مِنْهُ الْمَاء﴾ وهو ما يقطر منه الماء حول الأنهار ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ﴾ إذا أقسم عليها باسم الله أو أسماء أوليائه ﴿وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ بالياء والتاء وهو وعيدهم.