سبب النّزول
لا تتجاوزوا الحدود!
ثمّة روايات متعددة وردت بشأن نزول هذه الآيات منها: في أحد الأيّام أخذ رسول اللّه (ص) يصف بعض ما يجري يوم القيامة وحال الناس في تلك المحكمة الإِلهية العظمى، فهزّ الوصف نفوس الناس وراح بعضهم يبكي، وعلى أثر ذلك عزم بعض أتباع رسول الله (ص) على ترك بعض لذائذ الحياة ورفاهها، وأن ينصرف
بدلا من ذلك إِلى العبادة، فأقسم أميرالمؤمنين (ع) أن ينام من الليل أقلّه ويصرفه في العبادة، وأقسم بلال أن يصوم أيّامه كلّها، وأقسم عثمان بن مظعون أن يترك إِتيان زوجته وأن ينقطع إِلى العبادة.
جاءت زوجة عثمان بن مظعون - وكانت إمرأة جميلة - يوماً إِلى عائشة فعجبت عائشة من حالها فقالت: ما لي أراك متعطلة؟
فقالت: لمن أتزين؟ فو اللّه ما قاربني زوجي منذ كذا وكذا فانّه قد ترهب ولبس المسوح وزهد في الدنيا، فبلغ ذلك رسول الله (ص)، فجاء إِليهم وأخبرهم أن ذاك خلاف سنّته وقال: "فمن رغب عن سنتي فليس مني" ثمّ جمع الناس وخطبهم وقال:
"ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا، أمّا إِنّي لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً، فإنّه ليس في ديني ترك اللحم ولا النساء ولا إِتّخاذ الصوامع، وإِنّ سياحة أُمّتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة وصوموا رمضان، واستقيموا يستقم لكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم...".
فقام الذين كانوا قد أقسموا على ترك تلك الأُمور وقالوا: يا رسول الله، لقد أقسمنا على ذلك، فماذا نفعل؟ فنزلت الآيات المذكورة جواباً لهم (1).
لابدّ من القول بأنّ قَسَم البعض مثل قسم عثمان بن مظعون لم يكن مشروعاً لما فيه من غمط لحقوق زوجته، ولكن فيما يتعلق بقسم الإِمام علي (ع) بإحياء الليل بالعبادة، فإنّه كان أمراً مباحاً، ولكن المستفاد من الآيات هو أنّ الاُولى أن لا يكون ذلك بصورة مستمرة ودائمة، ولا يتعارض مع عصمة علي (ع)، لأننا نقرأ بما يشبه ذلك بالنسبة لرسول الله (ص) في الآية الاُولى من سورة التحريم: (يا أيّها النّبي لم تحرّم ما أحلّ الله لك تبتغي مرضاة أزواجك).
التّفسير
القسم وكفارته:
في هذه الآية والآيات التّالية لها مجموعة من الأحكام الإِسلامية المهمّة، بعضها يشرع لأوّل مرّة، وبعض آخر جاء توكيداً وتوضيحاً لأحكام سابقة وردت في آيات اُخرى من القرآن، لأنّ هذه السورة - كما سبق أن قلنا - نزلت في أواخر عمر رسول الله (ص) فكان لابدّ من التأكيد فيها على أحكام اسلامية مختلفة.
في الآية الاُولى إِشارة إِلى قيام بعض المسلمين بتحريم بعض النعم الإِلهية، فنهاهم الله عن ذلك قائلا: (يا أيّها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) (2).
إِنّ ذكر هذا الحكم، مع أخذ سبب النّزول بنظر الإِعتبار، قد يكون إِشارة إِلى أنّه إِذا كان في الآيات السابقة شيء من الثناء على فريق من علماء المسيحية ورهبانها لتعاطفهم مع الحقّ والتسليم له، لا لتركهم الدنيا وتحريم الطيبات، وليس للمسلمين أن يقتبسوا منهم ذلك، فبذكر هذا الحكم يعلن الإِسلام صراحة إِستنكار الرهبنة وهجر الدنيا كما يفعل المسيحيون والمرتاضون (ثمّة شرح أوفى لهذا الموضوع في تفسير الآية (27) من سورة الحديد: (... ورهبانية ابتدعوها).
ثمّ لتوكيد هذ الأمر تنهي الآية عن تجاوز الحدود، لأنّ الله لا يحبّ الذين يفعلون ذلك (ولا تعتدوا إِنّ الله لا يحبّ المعتدين).
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ﴾ مستلذاته لعله تعالى لما مدح النصارى على ترهبهم عقبه بالنهي عن الإفراط في ذلك، وروي أنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) وصف القيامة فبالغ فهم قوم من الصحابة أن يلازموا الصيام والقيام ويجانبوا الفرش والنساء فيسيحوا في الأرض فبلغ ذلك النبي فقال: إني لم أومر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ونزلت ﴿وَلاَ تَعْتَدُواْ﴾ حدوده بتحريم الحلال وبالعكس ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.