بعد ذلك يتناول الكلام صيد البحر: (أُحلّ لكم صيد البحر وطعامه).
لكن ما المقصود من الطعام؟ فإن بعض المفسّرين يرون أنّه ذلك النوع من السمك الذي يموت بدون صيد ويطفو على سطح الماء، مع أنّنا نعلم أنّ هذا الكلام ليس صحيحاً، لأنّ السمك الميت بهذا الشكل حرام مع أنّ بعض الرّوايات التي يرويها أهل السنّة تدل على حليته.
إِنّ ما يستفاد من التعمق في ظهور الآية هو أنّ القصد من الطعام ما يهيأ للأكل من سمك الصيد إِذ أنّ الآية تريد أن تحلل أمرين، الأوّل هو الصيد، والثّاني هو الطعام المتخذ من هذا الصيد.
وبهذه المناسبة، ثمّة فتوى معروفة بين فقهائنا تعتمد مفهوم هذا التعبير، وذلك فيما يتعلق بصيد البر، فإِن هذا الصيد ليس وحده حراماً، بل أنّ طعامه حرام أيضاً.
ثمّ تشير الآية إِلى الحكمة في هذا الحكم وتقول: (متاعاً لكم وللسيارة)، أي لكيلا تعانوا المشقّة في طعامكم وأنتم محرومون، فلكم أن تستفيدوا من نوع واحد من الصيد، ذلكم هو صيد البحر.
ولمّا كان من المألوف أن يكون السمك الذي يحمله المسافر معه هو السمك المملح، فقد ذهب بعض المفسّرين إِلى تفسير العبارة المذكورة في الآية بأنّه يجوز "للمقيمين" أن يطعموا السمك الطازج و"للمسافرين" السمك المملح.
ولابدّ من التنبيه إِلى أنّ حكم (أحلّ لكم صيد البحر وطعامه) ليس حكماً مطلقاً وعاماً في حلّية صيد البحر كافة كما يظن بعضهم، وذلك لأنّ الآية ليست في معرض بيان أصل حكم صيد البحر، بل هدف الآية هو أنّ تبيّن للمحرم أنّ صيد البحر (الذي كان حلالا قبل الإِحرام له أن يطعمه في حال الإِحرام أيضاً)، وبعبارة أُخرى: لتبيّن الآية أصل تشريع القانون، وإِنّما تشير إِلى خصائص قانون سبق تشريعه فليست الآية في معرض عمومية الحكم، بل هي تبيّن حكم المحرم فحسب.
وللتوكيد تعود الآية إِلى الحكم السابق مرّة أُخرى وتقول: (وحرّم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً).
ولتوكيد جميع الأحكام التي ذكرت، تقول الآية في الخاتمة: (واتقوا الله الذي إِليه تحشرون).
حكمة تحريم الصّيد حال الإِحرام:
معلوم أنّ الحج والعمرة من العبادات التي تفصل الإِنسان عن عالم المادة وتنقله إِلى محيط ملىء بالمعنويات، فخصوصيات الحياة المادية، والجدال الخصام، والرغبات الجنسية، واللذائذ المادية كلّها تنفصل عن الإِنسان في مناسك الحج والعمرة، ويبدأ الإِنسان ضرباً من الرياضة الإِلهية المشروعة، ويبدو أن تحريم صيد البرّ في حال الإِحرام يرمي إِلى الهدف نفسه.
ثمّ لو أحل الصيد لزائري بيت الله الحرام، مع الأخذ بنظر الإِعتبار كثرة الزوار وكثرة ترددهم في كلّ سنة على هذه الأرض المقدسة، لقضي على وجود الكثير من الحيوانات القليلة أصلا في تلك الأرض القاحلة الخالية من الماء والزرع، فجاء هذا التشريع لضمان بقاء حيوانات تلك المنطقة والحفاظ عليها من الإِنقراض.
وإِذا أخذنا بنظر الإِعتبار أنّه حتى في غير حال الإِحرام يمنع صيد الحرم، وكذلك قطع أشجاره وحشائشه، تبيّن لنا أنّ لهذا التشريع ارتباطاً وثيقاً بقضية الحفاظ على البيئة وعلى النبات والحيوان في تلك المنطقة، وصيانتها من الإِبادة.
إِنّ هذا التشريع من الدّقة والإِحكام بحيث أنّه يمنع فيه حتى هداية الصياد إِلى مكان الصيد، فقد جاء في بعض الرّوايات من طرق أهل البيت (عليهم السلام) أنّ الإِمام الصادق (ع) قال لأحد أصحابه: "لا تستحلن شيئاً من الصيد وأنت حرام ولا أنت حلال في الحرم ولا تدلن محلا ولا محرماً فيصطاده، ولا تشر إِليه فيستحل من أجلك، فإنّ فيه فداء لمن تعمّده" (2).
﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ﴾ مصيداته أن ينتفعوا به مما يؤكل ومما لا يؤكل ﴿وَطَعَامُهُ﴾ ما يطعم من صيده أي وأحل لكم المأكول منه وهو السمك أو المراد وأحل لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه ﴿مَتَاعًا لَّكُمْ﴾ مفعول له أي تمتيعا لكم ﴿وَلِلسَّيَّارَةِ﴾ أي مسافريكم يتزودونه قديدا ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ﴾ ما صيد فيه مما يفرخ فيه ﴿مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾ محرمين وإن صاده محل عندنا ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ للجزاء.