التّفسير
بعد الكلام في الآيات السابقة على تحريم الصيد في حال الإِحرام، يشير القرآن الكريم في هذه الآية إِلى أهمية "مكّة" وأثرها في بناء حياة المسلمين الإِجتماعية، فيقول أوّلا: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للنّاس).
فهذا البيت المقدس رمز وحدة الناس ومركز لتجمع القلوب حوله، ومؤتمر عظيم لتوثيق الرّوابط المختلفة، فهم في ظل هذا البيت المقدس وفي مركزيته ومعنويته المستمدة من جذور تاريخية عميقة يستطيعون إِصلاح الكثير ممّا يستوجب الإِصلاح والترميم في حياتهم، وإِقامة سعادتهم على قواعده المتينة، لذلك فقد وصف هذا البيت في سورة آل عمران (الآية 96) : (إِنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين).
في الحقيقة إنّ المسلمين يستطيعون - إِنطلاقاً من المفهوم الواسع لقوله: (قياماً للناس) - أن يصلحوا كل أُمورهم بالركون إِلى هذا البيت وفي إطار تعاليم الحج البناءة.
ولما كانت هذه المناسك يجب أنّ تجري في جو آمن وخال من الحروب والمنازعات والمخاصمات، فقد أشارت الآية إِلى أثر الأشهر الحرم (وهي الأشهر التي تمنع فيها الحرب مطلقاً) وقالت: (والشهر الحرام) (1) كما أشارت إِلى الأضاحي الفاقدة للعلامة (الهدي) والأضاحي ذات العلامة (القلائد) التي منها يطعم الناس في موسم الحج، وتؤمن جانباً من إِحتياجات الحاج للقيام بمناسكه، فقالت: (والهدي والقلائد).
ولمّا كان مجموع هذه الأحكام والقوانين والتشريعات بشأن الصيد، وكذلك بشأن حرم مكّة والشهر الحرام وغير ذلك، يحكي عمق تدبير الشارع وسعة علمه تقول الآية: (ذلك لتعلموا أنّ الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأنّ الله بكل شيء عليم).
بناءاً على ما مرّ بنا في تفسير هذه الآية يتّضح الإِرتباط بين بدايتها ونهايتها، إِذ أنّ هذه الأحكام التشريعية لا يستطيع أن ينظمها إِلاّ من كان عليماً بأعماق القوانين التكوينية، فالذي لا علم له بدقائق شؤون السماء والأرض وبما استقرّ في روح الإِنسان وجسمه عند خلقه، لا تكون له القدرة على تقرير أحكام كهذه، فالقانون الصحيح السليم هو ذاك الذي ينسجم مع قانون الخلق والفطرة.
﴿جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ عطف بيان ﴿قِيَامًا لِّلنَّاسِ﴾ أي ما يقوم به أمر دينهم بحجة ودنياهم بأمن داخله وربح التجارة عنده وقرىء قيما مصدر قام ﴿وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ لامه للجنس أي الأشهر الحرم الأربعة ﴿وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ﴾ فسرا في أول السورة ﴿ذَلِكَ﴾ الجعل ﴿لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فإن من تأمل في أعمال الحج وشرائعه علم أن فيها حكما ومصالح لا تحصى وأن شارعها هو الحكيم الخبير.