التّفسير
الأكثرية ليست دليلا على الطهارة:
دار الحديث في الآيات السّابقة حول تحريم الخمر والقمار والأنصاب والأزلام وصيد البر في حال الإِحرام، ولكن قد نجد أناساً يتذرعون لإِرتكاب هذه المعاصي بالكثرة الكاثرة من الذين يرتكبونها في بعض الأمصار، فيقولون مثلا: أنّ أكثر أهل المدينة الفلانية يعاقرون الخمرة، أو أنّهم يمارسون القمار، أو أنّ أكثرية الناس في ظروف خاصّة لا يقيمون وزناً لتحريم الصيد ولغيره لذلك، فهم أيضاً يحذون حذوهم ويهملون العمل بتلك التشريعات، فلكيلا يتذرع الناس بأمثال هذه الأعذار، يضع الله سبحانه قاعدة كلية عامّة ورئيسية في عبارة قصيرة شاملة يخاطب بها رسوله الكريم: (قل لا يستوي الخبيث والطّيب ولو أعجبك كثرة الخبيث).
وعليه فإِن الخبيث والطبيب - في الآية - يشملان كل ما يرتبط بالإِنسان، طعاماً كان ذلك أم فكراً.
وفي الختام يخاطب العلماء وأصحاب العقول والأذكياء فيقول: (فاتقوا الله يا أُولي الألباب لعلكم تفلحون).
أمّا أنّ مدلول الآية من قبيل توضيح الواضحات، فذلك لأن ثمّة من يظن أنّ أُموراً عارضة، مثل كثرة إِتباع الخبيث، أو ما يسمى بـ"الأكثرية" تجعل ذلك الخبيث في مصاف الطيب، كما يحدث أحياناً أنّ نرى بعضهم يقع تحت تأثير الجماعة وإِتجاه أهواء الأكثرية، ظاناً أنّه حيثما مالت الأكثرية كان ذلك دليلا قاطعاً على صحة ما مالت إِليه، بينما الأمر ليس كذلك، والقضايا التي أيدتها الأكثرية وظهر بطلانها كثيرة جداً.
في الواقع إنّ ما يميز الخبيث من الطيب هو الأكثرية الكيفية لا الكمية، أي أنّ المطلوب هو أفكار أقوى وأرفع وأسمى وأنقى لاكثرة المؤيدين.
هذه القضية لا تلاءم أذواق بعض الناس في العصر الحاضر، بعد أنّ تشبعت أذهانهم على أثر التلقين ووسائل الأعلام بأن الأكثرية هي معيار معرفة الخبيث من الطيب، إِلى حدّ الإِيمان بأن "الحقّ" هو ما أرادته الأكثرية، و"الطيب" هو ما مالت إِليه الأكثرية، وليس كذلك.
إن معظم مشاكل العالم ناتجة عن هذا اللون من التفكير.
نعم، إِذا تمتعت الأكثرية بقيادة صادقة وتعليمات صحيحة، بحيث تؤلف أكثرية ناضجة بما للكلمة من معنى، فيمكن حينئذ اعتبار هذه الأكثرية واتجاهاتها مقياس تمييز الخبيث عن الطيب، لا الأكثرية الفجة غير الناضجة.
على كل حال، يشير القرآن إِلى هذا الأمر في هذه الآية، ويحذر الناس من الإِنجراف مع أكثرية الخبثاء، وفي مواضع أُخرى تكاد تبلغ العشرة يقول تعالى: (ولكن أكثر النّاس لا يعلمون) أمّا تقديم "الخبيث" على "الطيب" في الآية، فذلك لأنّ الكلام موجه إِلى الذين يحسبون كثرة الخبيث دليلا على صحة ما يذهبون إِليه، فلابدّ من الردّ على هؤلاء، وتعريفهم بأن معيار الخباثة والطيبة لم يكن في يوم من الأيّام هو الأكثرية أو الأقلية، بل في كل زمان ومكان كان "الطيب" خيراً من "الخبيث" وأن أصحاب الحجى والتبصر لا ينخدعون بالكثرة، فهم يتجنبون الخبيث دائماً حتى وإِن تلوث به جميع المحيطين بهم، ويندفعون نحو الطّيب حتى وإِن ابتعد عنه الجميع.
﴿قُل لاَّ يَسْتَوِي﴾ عند الله ﴿الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ﴾ حرام المال وحلاله وصالح العمل وطالحه ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ﴾ أيها السامع ﴿كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾ فإن قليل الطيب خير من كثير الخبيث ﴿فَاتَّقُواْ اللّهَ﴾ وأدوا ما هو خير ﴿يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ لتفوزوا بالثواب.