الآية التي بعدها تؤكّد هذه الحقيقة، وتبيّن أنّ أقواماً سابقين كانت لهم أسئلة كهذه، وبعد أن سمعوا أجوبتها خالفوها وعصوا: (لقد سألها قوم من قبلكم ثمّ أصبحوا بها كافرين).
وللمفسّرين أقوال مختلفة بشأن تلك الأقوام، منهم من ذهب إِلى أن الأمر يخص تلامذة عيسى (ع) عندما طلبوا مائدة من السماء، فعندما تحقق لهم ما أرادوا عصوا، ويقول بعض: إِنّها حكاية مطالبة النّبي صالح (ع) بمعجزة، ولكن الظاهر أن هذه الإِحتمالات بعيدة عن الصواب، لأنّ الآية تتحدث عن "سؤال" عن مجهول يراد الكشف عنه، لا عن "طلب" شيء، ولعل استعمال كلمة "سؤال" في كلا الحالين هو سبب هذا الخطأ.
قد تكون تلك الأقوام من بني إِسرائيل أمروا بذبح بقرة للتحقيق في أمر جريمة (انظر شرح ذلك في المجلد الأوّل من هذا التّفسير) فراحوا يمطرون موسى بالأسئلة عن خصائص البقرة ومميزاتها ممّا لم يكن قد نزل بشأنها أي شيء، ولكنّهم بسؤالاتهم المتكررة التي لم تكن ضرورية أخذوا يشقون على أنفسهم، بحيث أن العثور على تلك البقرة الموصوفة أصبح من الصعوبة بمكان وتحملوا الكثير من النفقات في سبيل ذلك، حتى كادوا أن ينصرفوا عن التنفيذ.
في تفسير قوله تعالى (وأصبحوا بها كافرين) إحتمالان:
الأوّل: أنّ المقصود بالكفر هو العصيان، كما سبقت الإِشارة إِليه.
والثّاني: هو أنّ الكفر قصد بمعناه المعروف، وذلك لأن سماع الإِجابات المزعجة التي تثقل على السامع قد تدفع به إِلى إِنكار أصل الموضوع وصلاحية المجيب، كأن يسمع مريض جواباً لا يروقه من طبيبه، فيؤدي ردّ الفعل به إِلى إِنكار صلاحية الطبيب واتهامه بعدم الفهم مثلا أو بالهرم ونسيان المعلومات.
في ختام هذا البحث نجد لزاماً أن نكرر ما قلناه في بدايته، وهو أنّ هذه الآيات لا تمنع أبداً القاء الأسئلة المنطقية التربوية والبناءة، بل تتحدد بالأسئلة التي لا لزوم لها، وبالتعمق في أُمور لا ضرورة للتعمق فيها والتي من الأفضل بل من اللازم - أحياناً - بقاؤها في طي الكتمان.
﴿قَدْ سَأَلَهَا﴾ أي الأشياء بحذف عن أو المسألة بقرينة تسألوا ﴿قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ﴾ فأجيبوا ببيانها ﴿ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ﴾ أي بسببها إذ لم يقبلوها.